مجموعة قصصية
نوزاد جعدان
رحلة البحث عن الإنسان الذي يتحدى مصيره، والانعكاسات التي يواجهها، حين يغور في أعماق النفس الإنسانية المظلمة، والحزن البشري السامي بمباشرة فورية مكثفة، محللاً من خلالها الدوافع التي تكمن وراء ذلك، وتحليل الظواهر التي تكمن ما وراء الطبيعة
إنّها تثلجُ الآن في اسطنبول، كرات الثلج تنبعث من السماء كأنها فقاعات صابونية تنفثها فاه ولد صغير لاهٍ، يشتد الثلج كلما شعرتْ الأشجار بضعفه، فينزل على رؤوس الأحياء ليبلل خصلات شعرهم، وعلى السقوف القرميدية لتعتمر المدينة قبعة بيضاء، وعلى رؤوس القبور ليتبلل التراب، قد توحّل الموت!، الشوارع ما زالت تعج بالمارة قد اعتادوا على المطر والثلج، البعض يحتفل والآخر يشحذ والأهم أن الناس في الزقاق الذي أقطنه لا تنام، (تقسيم)1 امرأة عاقر ثملة لا تنام، أما أنا ما زلت أتقلب و أتضرع من النوم الرحمة، فذاك الخوف الذي ولّده فيني (نزار الصافي) منذ التقاطي له لأخر صورة لا يتركني.
رافدة السقف تقترب من رأسي وذاك المصباح الأصفر المعلق يهتز ليحولني إلى معتوه، ظلال غريبة تتشكل على الحائط و أصوات تصرخ على آذاني قادمة من الغرفة الثانية كأنها إذاعة مشوشة، هل هي محطة الموت؟!..غريب قصة المذياع ينطفئ ويشتغل من تلقاء نفسه، في البهو الفاصل بين الغرفتين هناك ظلال ترنو من تلك المرآة الحمقاء، كم أكره المرايا!، صمت طويل يعتريني وصوت القطط في الخارج يؤرقني، ومما يزيد الطين بلة صورة الأشباح البيضاء وهي تنزل من السماء كلوحة الموت بدون إمضاء، أمسيتُ شديد القنوط فأدرتُ آلة التسجيل لأسمع أغنية لأحمد كايا2 ، ومن حظي التعس انقطعتِ الكهرباء، فجلستُ مع صمتي وظلامي وهواجسي حين قدم نزار لأول مرة إلى مكتبي.
كان طويل القامة، جسمه متناسق، ووجه نحيل، لكنه مرتعش وخائف، أجلسته قربي واحتسينا كوبين من الشاي، وجهه أصفر وعيناه رمشاهما طويلان، لا أستطيع نسيان تينك العينين، فيها مشاهد عابرة ولقطات لا تصلها أية آلة تصوير من تلك التي أملكها.
قال لي: إني على حافة الجنون، لم أنم منذ ليالٍ طويلة، الأصوات تعبث في دماغي وقلبي يكاد يتوقف عن الوجيب، أؤكد لك إني أحادثهم، في ذلك اليوم في المقابر تحدثت مع جدي وجدتي كانوا في أبهى صورتيهما، ما هذا الكوان الذي يحيط بي، كلما أتصوّر قرب قبر تظهر صورة الضريح ولا أبدو أنا، أرى ظلاماً يسكن في روحنا المظلمة وعقلنا الساكن في عباب السواد، هل أنا موجود يا صديقي؟!.
- طبعاً!، ما هذا الكلام، هدئ من روعك!، في هذه الصورة ستظهر حتماً ، ربما تخطئ في الإضاءة أو زاوية التصوير أو تلبس بدلة داكنة، إنك متعب عليك بالنوم والاسترخاء.
حمّضتُ الفيلم ولم تظهر صورة نزار بل صور للمقابر، سألته: ألم ترَ غير القبور كي تتصور قربها، يا أخي الناس تلتقط صورها في حديقة أو طبيعة أو في قصر، وليس في مكان تفقد الحياة ذاكرتها.
لكزني على كتفي ونظر إلي برموشه التي لا ترف أبدا، نظرته ثابتة كمسرح لا يعرف الستارة - سيتعبك الجمهور - قائلا: في المقابر تجد المدينة الفاضلة، الحياة فيها حياة، الطبقات تتلاشى والأموات ما أجملهم بهدوئهم ، وأنت المتطفل عليهم تشاركهم حينما تحلم ويشاركونك حينما تزورهم، أتعلم ربما جدي خرج من قبره الآن وأصبح الآن في الصين وربما أمي في أوربا مَن يدري؟..ربما يخرجون من قبورهم، وهم في مكان بعيد لا تستطيع أن تراهم، لكنهم أحياء ألا تتساءل عن تلك الشخصيات التي تراها عابرة في الشارع أو الحافلة أو القطار ربما خرجوا من قبورهم وهم آباء وأبناء لأشخاص آخرين من بلدان أخرى، هم الأموات الأحياء، إن الحديث عن الموت يلغي الحياة يا صديقي ماذا لو نفينا الموت، لولا النتائج لما فكرنا بالأسباب، أنا أتمنى الموت فقد فشلت في كل شيء، في الحب مغفل فاشل، في الصداقة لم تبقَ لي سوى علبة سجائري صديقة وحيدة تتركني إن لم أملك المال، في العمل فشلت لأني لم أفكر في الطرق الملتوية، بقيت بمبادئي سحقني القدر آه من روحي!، بحر فقد أضلاعه، لذا صادقت القبور، أردت التصور قرب كل قبر في العالم، تربطني صداقات حميمة مع الموتى أتكلم معهم إنهم حولي وأنا حولهم، هم أحياء أعرف إنك عير موقن بذلك، كل قبر يفتح لي أسرار مغلقة، أفكر كيف عاش هذا الشخص ما كانت آماله؟!، كيف كانت حياته؟!، كيف استيقظ من موته؟!، هل كان عاشقاً أم معشوقاً من الجميلات؟!، أفكر في مارلين مونرو الحسناء ماذا حلّ بها كم كانت آمال الرجال معلقة في مصباحها؟!، كانوا يقفون في طابور طويل ليلقوا نظرة عليها، ما هذا السخف الآن أمست تراباً، معقول !، تخيّل لو تظهر الآن ستتبول في سروالك، ما لا يفنى يعيش يا صديقي وحين يضيع كل شيء ستجد الروح طريقها حتماً، هل نقبر آمالنا في الحياة ونحيا في المقابر، أهي مسرح هذه الحياة، نتحرك فيها كالدمى والساكنون في الأسفل يشاهدوننا ويسخرون منا، ترى أي الأضرحة مباركة تلك التي تغزوها الأعشاب أم العارية، أتعلم مرة زرت قبرا لفتاة مقتولة بجريمة شرف، وجدت أجمل أنواع الورود على ضريحها، خمّنتُ أن لها قلباً بكل ألوان الزهور، الروح صافية يفسدها العقل البشري، ما ذنبها كي تقتل، هل الخالق قاتلها لا، هل يحيا الموت بالصلاة وتفنى الحياة باليقين؟!. آه من الإنسان ذلك السر المحفوظ في خزانة ترابية!..
أومأتُ له بابتسامة ملتوية وشعرت بحديثه ينتقل بين المنطق والجنون، وترعبني جفونه كأنها ملتصقة بعينيه بلاصق من أعلى، شفاهه بالكاد تتحرك والصوت يخرج من لجة الروح، ناولته الصور التي حمضتها ولم يتعجب من عدم ظهوره مبررا لي بتعوده على الأمر فهي ليست المرة الأولى، أمسكتُ آلة التصوير والتقطتُ له صورة بمحاذاة صورة لفيرجينا وولف معلقة في فناء المكتب عندي، وعلى الفور حمضتُ الصورة التي كانت صدمة لي حين بدت فيرجينا وحيدة في الصورة بملامحها الحزينة ووجهها البائس.
بعد زيارته بفترة علمت أنه في مصح عقلي يتعالج وبعد مدة مات بسكتة قلبية، وقد قالتْ لي الممرضة أن نظرته كانت ثابتة بعينين واسعتين تنظران باتجاه النافذة المفتوحة والستائر التي تتراقص عليها الريح، وقد دفنوه قرب قبر أمه و جده في ضاحية المدينة، ترى أين تحوم روحك يا نزار؟!..فكرتُ لماذا لا أذهب و أتصور قرب قبره هل ستظهر صورتي ؟!,
كانت تمطر بغزارة، لبستُ كنزة صوفية سميكة واعتمرت قبعة وانتعلت حذاء طويلا وأخذت مظلتي معي.
كان مطرا مجنوناً ودموع السماء تصدر موسيقى على مظلتي كأنها قرع طبول الموت، لا أعرف لمَ اخترتُ الليل كي أتصور فيه، ربما عشقي لهذا الجلباب الأسود والسر الذي يخفيه ليل الدنيا وليل العقل البشري، وربما لأنه يذكرني بفتيات حلب بمعطفهم الأسود الطويل..
الليل حالك وأضواء الرصيف تشكل رتلا يتضاءل ليصل لباب المقبرة ، يختتم اللحن هناك، أما باب المقبرة فكان بوابة قديمة حديدية تعزف صريراً مزعجاً، الأشجار تتمايل وتعزف الرياح عليها زفيفاً هادئا، كأنها تنقل الرسائل لسر يباح بهمس خفيف، أسرار الموتى مرعبة !، هناك مقاعد فاغرة الأفواه تتعارك عليها الظلال، أشعلت لفافة تبغ وتقدمت، شاهدات القبور تقف كبطاقة تعريف للموتى وكإشارة مرور حمراء لا يجوز تجاوزها، الشاهدات كثيرة وأنا أسير كحافلة بين المارة، كراكب حافلة صرتُ أتأمل المارة وراء زجاج دمه ثقيل، فتشتُ عن ضريح نزار مستعينا بعود الثقاب فادني التدخين هذه المرة، كلما أشعل عود ثقاب تغزوني الظلال ويرعبني الصوت الخارج من الكبريت، وأخيرا رأيت قبر نزار وقفتُ -وأنا المنطلق في أسرار الحياة، منذ طفولتي أبحث عن أسرار الكون- صدرَتْ حركة خفيفة من قبر جار نزار، التفتُ ورائي لم أجد شيئا، العقل الواعي ما زال عندي في أوج حالاته والصور الذهنية التي أراها ربما تخلقها هواجسي في هذا العقل الباطن الساذج.
وضعتُ الكاميرا في وضع التصوير الليلي بفلاش ساطع ثم عيّرتها كي تصورني من تلقاء نفسها قرب قبر نزار، التقطت عدة صور ثم قرأت الفاتحة على قبره وهممتُ بالرجوع، توحّلت قدماي وسمعتُ قهقهات و بكاء وصرخات مزعجة، هل أخطأتُ بإزعاجي للموتى الحلوين ذي الأسنان البالية والعظام المفحمة والثياب البيضاء الممزقة بأخر الليل، الوقت غير مناسب للزيارات،
سمعتُ أصوات أقدام ورائي فحسبتُ أن شخصاً يلاحقني ، أسرعتُ من خطواتي وازداد رعبي إلى أن خرجت من بوابة المقبرة، وصلتُ إلى المنزل وأنرتُ كل أضواء البيت، لم أستطع تحميض الفيلم فأجلته إلى اليوم التالي، فغرفة التحميض مظلمة، وأنا هارب من ظلامين، في صباح اليوم التالي انتهيت من التحميض ، فرحتُ لأني وجدت صورتي وقبر نزار إذن أنا طبيعي!، وكاد أن يغمى علي حين وجدت شخصاً يقف ورائي في كل الصور، بطول نزار وعرضه ونفس ملامح وجهه لكن البياض عليه أكثف من ضوء آلة تصويري.
ما زال الثلج يهطل في اسطنبول والكهرباء مقطوعة وغرفتي تكبر فيها الظلال، ووجه نزار يرسو أمامي في الغرفة برموشه الطويلة وجفونه الثابتة كما بدا في أخر صورة صوّرته إياها.
1-تقسيم اسم منطقة في اسطنبول .
2-أحمد كايا مطرب كردي تركي عانى من مرارة السجون فرحل شابا.
اسطنبول 21-1-2011
كان يقلّب الأفكار في دماغه، كما تدوّر الغسالة الجوارب في قاعها، في مساء شتائي بارد جداً، لا شخص يرنو في قماط الأرض هذا، وحده "زهير" يستند على عمود كهرباء قديم، يخرج سيجارة من جيب معطفه الدافئ، يسحب منها عدة أنفاس و ينفثها على مهل، ربما تزيل التوتر الذي رافقه عدة أيام، منذ نجاته من جولة الكر والفر الطويلة من الشارع الذي تتوضع فيه قناصة الجيش.
يحملق في كل مكان من حوله، لعله يجد مأوىً يقيه هذه العاصفة الثلجية التي تجعله يقيد يديه في جيبيه، إنه شباط حلب المشهور بالصقيع والبرد.
تأمل " زهير" مدرسة الدباغية الشامخة بطرازها الأندلسي والتي تستطيع أن تراها حتى لو قلّبت المدينة باتجاهاتها الأربع، ازدانت المدرسة مهابة وفخامة في هذا الجو، فاعتمرت قبعة بيضاء على رافدتها، وعلى الرغم من الويلات والحروب التي تعرضت لها على مدار نشأتها، بدءاً من زلزال حلب المدمر إلى الاحتلال العثماني والفرنسي، والظلال الكئيبة التي رافقتها بالإضافة إلى الشموس المبتسمة التي سطعت عليها، لكنها مازالت محتفظة بوجهها الجميل كأي عجوز وسيم غطت وجهه التجاعيد ولكنها لم تمسح معالم الوسامة من وجهه.
حبسَ الثلج ماء ذكرياته في المدرسة، تذكر أول يوم له في المدرسة حين اصطحبه والده، شعر بالدفء قليلاً حينما تحسس دفء يدي والده، أحسَّ بالحرارة تسري في جسده عندما تذكر شكل أول حقيبة مدرسية يقتنيها ورائحتها الباقية في سرداب ذاكرته، كأول عطر تشتريه في حياتك، تلك الحقيبة التي كانت تحمل الأقلام وحبات البرتقال وعرائس الدبس،لفّات دبس البندورة التي كانت تحضرها أمه في الصيف على سطح المنزل، تخيلها بدل حقيبة القنابل التي كانت تعتلي ظهره.
مضت نسمة هواء باردة، ذكرته بحارته التي كان فيها الطلبة ينتعلون جزمات طويلة، حيث كان الطين يغطي أرجلهم صيف شتاء، اقترب من بوابة المدرسة الحديدية و الموصدة بالسلاسل، كانت هذه البوابة حينما تفتح تصدر صريراً يوقظ نصف أهل المدينة، حاول تسلق الراقدة الأفقية للبوابة لم يستطع كانت عالية جدا، سحب ياقة معطفه إلى رقبته ونفخ على يديه بدت له حديقة المدرسة معتمة كثيراً، وقد تحولت إلى مزار للغربان والكلاب الضالة.
دار حول سور المدرسة، تفاجأ من منظرها لم يتوقع يوماً أن تصبح حديقة المدرسة المظللة بأشجار السرو والصنوبر مدفناً للثوار وقوات الجيش وضحايا اللصوص.
أخافه زفيف الريح والوحدة الموحشة، غنّى بصوت منخفض جدا لعله يزيل هذا الشعور السيء عن نفسه، غنّى كعاشق تلقى خبر زواج حبيبته لتوه، فرك راحة يديه ببعضهما، كان الإحساس بأنه سيموت متجمدا ملازماً له، أما ذهنه مشغول بإيجاد ثغر إلى المدرسة من خلال هذا السياج الحديدي، ربما يحرق مقعداً خشبياً داخل المدرسة ويتدفأ به كما كانوا يفعلون أيام الشتاء في المدرسة نفسها، حين كان المدير يسرق مازوت المدرسة وتبقى مدفأة الطلبة بدون وقود، الحالة نفسها والمدينة بلا رقيب الآن، ولا أحد يحاسب على أفعاله.
أضواء المدينة المطفأة جعلت كل شيء في المدينة ينكشف على حقيقته، المدينة التي تبدو كعروس زال المكياج عن وجهها، حتى القمر لم يوزع عود ثقابه على المارة في تلك الليلة، بدا هزيلا كقطعة موز ذابلة، وحين يبدو القمر هزيلا ومكسوراً هكذا في هذه المدينة البائسة كمصباح مغلق، يكثر السقوط والتزحلق.
وجد فتحة صغيرة في السياج الحديدي للمدرسة ، ربما فتحها اللصوص أو الثوار أو ربما قوات الجيش ليدفنوا بها قتلاهم، لم يك يملك خياراً أخر، الثلج يزداد عنفواناً كما بدأت نوبات السعال تسلبه هدوءه وهدوء الأجواء المحيطة به ، كان يحبس سعاله كي لا يسمعه أحد قناصة الجيش المتمركزين في المنطقة المحيطة .
مضى في حديقة المدرسة والرعب يسري في جسده، كان الطين يملأ المكان وكلما تنغمس قدماه في الطين يلتفت يمنة ويسرا، لم يكن يلبس حذاءاً طويلاً، شعر وكأنه داس فوق شيء صلب، شعر بالظلال تتحرك حوله، قرفص على ركبتيه اللتين كانتا ترتجفان، تلمس الجسم الصلب، رفعه كانت يداً آدمية، سحبها رأى عينين تحدقان به، تسرب عرق بارد في كل أنحاء جسمه، وتجمدت أطرافه، أغلق عيني الجثة براحته وأكمل مسيره.
دار في فناء المدرسة، باحثاً عن مدخل يصله إلى الصفوف الداخلية، توقف عند نافذة تطل على الباحة، تأملها طويلاً حينما ردّته ذاكرته الخشبية إلى مقعده الذي كان بجوار الحائط البارد وتلك النافذة التي كان يتأمل الخارج والسيارات منها كثيرا، وينتشي سعادة حين يسمع دقات جرس الانصراف.
تابع مسيره إلى أن وجد باب المدرسة مفتوحاً، دخل على الفور متسللاً على رؤوس أصابعه، ثم زحف إلى الداخل وجثم على يديه وقدميه بحذر شديد، سمع صوت حفر في طرف حديقة المدرسة الغربي، وبعد لحظات اختفى الصوت، اطمأن باله حينما أقنع نفسه أنه ربما يكون أحدهم دفن جثة ورحل، اقترب من أحد الصفوف، بان له ضوء كابي أصفر، يكبر وبخبو ويبدو على الحائط ظل عملاق، مدّ رقبته على قدر استطاعته، بدت له غير واضحة، أيدٍ ملقاة على الأرض، رؤوس متدحرجة، وأرجل متمزقة وجثثاً عارية، منها ما تبدو عيونها الجاحظة ومنها الفاغرة الفاه، كأنها تلك الدمى البلاستيكية التي يتم تركيبها وفكها قطعة قطعة.
كاد أن يتقيأ مما رآه ومن الرائحة الكريهة المنبعثة، كان الموت حدث المدرسة في تلك اللحظة وحصتها الأخيرة، تمنى زهير أن يشعل سيجارة تزيل توتره، أصابه ظمأ شديد حين رأى ظلاً يقترب من الجثث، توقع أن يكون غولاً يسكن المدرسة، تمنى زهير لو انه يستطيع أن يغلق عينيه كي لا يرَ بقية المشهد، ولكن الفضول والموقف يدفعانه كي يستمر بالمشاهدة.
بعد لحظات، ران له الظل الكبير الذي كان لرجل يحمل مصباحاً زيتياً تآكل نصف فتيله، ترافقه امرأة برداء أبيض طويل، كان الرجل أحدباً والمرأة طويلة القامة ذات شعر مسترسل طويل يصل إلى منتصف ظهرها، عاكفين في النظر إلى الجثث الملقاة.
سرى في نفسه رعب لم يشعر به في ساحات الوغى، ومما زاد وتيرة رعبه أنه سمع خطوات تقترب منه، التفت خلفه، وجد رجلاً طويل القامة، يدخل من باب المدرسة ويتقدم نحو تلك الغرفة، ممر المدرسة الطويل وظل الرجل الذي يحمل شيئاً يترنح بين بيديه، الرأس يتدلى والقدمان رخوتان، جعل زهير يشعر بالخطر المحدق به من اليمين واليسار.
تراجع قليلاً واختبأ في إحدى الغرف، شعر أنه جلس على شيء، كانت الغرفة مليئة بالقطع الآدمية والجثث الملقاة هنا وهناك، تابع مراقبة هؤلاء المجهولين، حتى اطمأن عندما بدو له آدميين وليسوا من عالم الأشباح، الشخص ذو الظل الطويل وضع الجثة عند بقية الجثث، والاثنان الآخران يخلعان اللباس عنها، ويقطعانها قطعة قطعة، لم يدر في ذهن زهير سوى سؤال واحد هل هم قتلة بالفطرة كما في أفلام هوليوود، يجدون المتعة في القتل.
تمالك نفسه وبدأ يستعيد قوته تدريجياً، فكر أن بقاءه مرهون بقتل هؤلاء الثلاثة، لن يستطيع أن يتدفأ بالمقاعد طالما هم هنا، ثم اعتراه فضول بالذي يفعلونه بالجثث، انتصب ونفش صدره، لقّم بندقيته ووضع كاتم الصوت، ثم همّ بخطوات واسعة متجهاً إلى غرفتهم، وقبضته لا تبارح الزناد.
وقف الثلاثة وعيونهم متسمرة في مخرج للنجاة، قطع الطريق عليهم وصرخ بهم:
" أيها المجرمون يا من تمثلون بالجثث، سأقتلكم واحداً تلو الآخر".
صرخ الأحدب " أرجوك يا سيدي لا تقتلنا نحن أطباء" .
تفاجئ من جوابه ورمقه بنظرة ساخرة " أطباء وتقطعون الجثث، هناك ملايين الجرحى كي تداوهم، النقص في المستشفيات حاد ".
تدخل صاحب القامة الطويلة، وحدق في عيني زهير بعينين حمراوين كالجمر، وشارب غليظ يلف شفته كالقش الممتد على البيوت الاستوائية، حتى خرج منه صوت يشبه عواء الكلاب في الليل.
" سأقول لك كل شيء بصدق ولكن لا أرجوك لا تقتلنا، عندنا أطفال ينتظرون ان نحضر لهم الطعام، نحن نبيع قطع الجثث، نصدرها إلى طلبة العلم في الخارج، يعني تستطيع أن تقول أننا نعمل في التجارة، استيراد وتصدير" .
أبعد ذبابة وقفت على أنفه، وأردف قائلاً:
" هي جثث مجهولة الهوية، من قتلة الجيش والمعارضة والبعض ضحية الاغتصاب والسرقة، وفي النهاية هم أموات والموتى كما يقال لا يشعرون بشيء، إن لم نفعل ذلك لن نستطيع الاستمرار في هذا الوضع المزري للبلاد، لا خبز ولا كهرباء، الأغنياء هربوا و الأسعار باهظة جدا" .
بقي زهير يحدق به، دون ان ينبس ببنت شفة، ثم صدرت من شفتيه هسيس خافت:
" وأنا إن لم أفعل هذا لن أستطيع الاستمرار" .
تابع زهير مسيره نحو الممر المظلم، وسط الجثث الملقاة على اليمين واليسار، لم يعد يشعر بالبرد ولم يشعل المقعد الخشبي، أما الثلج فكان يحاصر مدرسة الدباغية، وحدها النوافذ كانت تحاول جاهدة أن تغبش الرؤية قليلاً إلى أن يهدأ هذا الشتاء الطويل البارد.
الشارقة الناصرية 20/9/2013
أحبّ الوحدة ولطالما أحبّها، غاص بالفوضى ولطالما غرق بها، كره الضجة ولطالما كرهها، عشق الصمت ولطالما عشقه، تعلّم على سواد الليل وكره الضياء، فأدمن على السهر وانعزل عن الخارج .
مهران شاب في ربيع العمر ينسج قصصا وروايات من الخيال العلمي، وفي ليلة من ليالي الصيف الحارة وبينما مهران يفكر بمدخل لقصته بعد أن غادر قطار الأفكار قبيل أن يلتحق به قلمه، بحث عن قلمه الرصاص الذي كان يعشقه ولا يستطيع الكتابة دونه، بحث جيدا ولم يجده إلا ممدا على الأرض اقترب منه ليمسكه، ظهرت أمامه قدما رجل ذي قامة طويلة يلبس لباس المهرجين، فزع مهران وتوسعت حدقتا عينيه واصفرّ وجهه ليصرخ :
_من أنت ؟ ماذا تريد؟..
ليجيبه المهرج بصوته الأجش : أتنساني يا أبي!..
رفرفت رموش مهران مستغربا ومتعجبا لجوابه وبردت أطرافه:
_من تقصد بأبي لست أبا لأحد، ثم أنا لم أتزوج بعد حتى يصبح عندي أولاد، وأنت تكبرني عمرا.
رد المهرج بسخرية :
_أتضعني وتلدني وتقول لي لست أباك، أنت كل الليل وأنت كل ظلامي، لقد صنعت مني مهرجا أضحك الناس، فسرقت الابتسامة من وجهي ..آه منك يا أبي! ..
دبّ الرعب في قلب مهران، فرّ من الغرفة مصطحبا معه قلمه ودفتره ليتوجه إلى فراشه، أغمض عينيه ربما يتخلص من هذا الكابوس، غفا قليلا حتى سمع جمهرة من الناس توقظه، فأحدهم ينط على فراشه والآخر يدغدغ أذنه وشخص يهز السرير، أمسى مهران لا يميز الأصوات وازداد خوفه حتى صرخ عليهم بقوة :
_ دعوني ارتاح، فقط أريد النوم أرجوكم دعوني أنام!.
اختفتْ الأصوات رويدا رويدا، فتح مهران عينيه قليلا لتبدو في وجهه فتاة شبه عارية بجانبه مستلقية، استيقظ من سريره مذعورا ومتسائلا :
_من أنتِ ؟ ..
- أتنساني يا أبي أنتَ الذي جعلتني مومسا حقيرة تبيع جسدها في المزاد والأسواق .
وقف مهران على قدميه مبتعدا عنها:
-ماذا تريدين مني، ومن أنتم وما الذي تفعلونه في بيتي، وكيف دخلتم إلى داري ؟..
- تعال نمْ بالقرب مني فأنت الذي جعلتني مومسا وترفض الآن النوم بالقرب مني آه منك أيها الأب المخادع !...
هرب مهران من غرفة النوم لينتقل إلى غرفة الجلوس وليفتح الخزانة ويخرجَ منها حبوبا مهدئة، رأى أمامه شخصا يشبهه بكل الصفات وكأنه توأمه نسخة طبق الأصل عنه، حاول لمسه ليتأكد من أنها ليست مرآة وقبيل أن يلمسه مهران ..
صرخ الشبيه :
_أنا أنت!، أعني أنت تخشى أحيانا من الخروج إلى العامة فتبعثني بدلا منك إلى الخارج وأحيانا تمسي جبانا في مواجهة الناس فتضعني أنا المسكين في الواجهة بدلا منك.
-لا ..لا إنما همْ يرفضون نشر كتاباتي ويحاولون كسر قلمي لأنني مازلت اكتب بقلم الرصاص إلا أنني اعتبر نفسي قصيدة السماء، ومهما حجبت الغيوم الشمس فالشمس تبقى شمسا، أما كتاباتي فهي كالخمر المعتق التي سيأتي وقتها وستمسي أكثر لذة، وصدى كتاباتي كلام يخرج من القلب فيدخل بالقلب وليست ككتابات اللسان التي تتوقف عند حدود الأذن دون أن تتجرأ بالدخول، ثم لماذا يحاولون كسر قلمي الرصاص ؟!..ولماذا يحاولون أن يطمسوا معالمه بممحاتهم؟!..أنت تختلط بالخارج وتعرف الجواب، لمَ يقدّرون الخريف ويرفضون الربيع بأجمل أشكاله؟، أنا سأقول لك الغصن الغض الجميل تتكاثر عليه فؤوس الحطابين لقطعه مع أنه في طور العطاء والازدهار، فلماذا ينتقدون قلم الرصاص ويحاولون طمسه بدلا من أن يشجعوه ويجعلوه غامقا فيضيفوا له حبرا، و لماذا يحترمون الحبر الغامق ؟!.. الاثنان يكتبان ولكن الشكل مختلف، أتعلمْ أن عائلتي لا تقرأ قصصي بل تقرأ للغرباء لا أعلم لمَ الناس تفضّل البضاعة المستوردة!.
بدأ مهران يزحف ولم يعد يستطيع الجلوس ولا النهوض ولا التفكير وتلُبك لدرجة غير طبيعية، ليتقدم ويخرج من تحت الأريكة شخص يلمس يده، ويداه باردتان:
-لماذا يا أبي جعلتني مشردا بلا أحد، دون أن يكون لي سند، أتذكر عندما غضبت وأحرقت بيتنا الذي يأوينا تذكر يا أبي تذكر !.
نظر مهران إلى وجهه وإذ به شخص مرعب الشكل وسخ المنظر والتراب يتساقط منه، ذو جسم نحيل ووجه مكفهر، هرول مهران فارا ليلاقي شخصا يصرخ على وجهه بقوة:
-أنت أيها المجرم جعلتني حانوتيا تكرهني النساء ولم تعد ترغب بي ولا واحدة منهن، لأقضي وقتي بين الأموات وأصبح شخصا حيا بقلب ميت و أعاني الوحدة طوال حياتي، تبا لك من أب! ..
هرب مهران إلى المطبخ ليصطدم بشخص طويل القامة عريض المنكبين في يده سكين تنزل منها الدماء وبيده الأخرى رأس الحانوتي وعلى الأرض يتدحرج رأس المهرج وليؤنب مهران ويصرخ في وجهه قائلا :
-أنتَ يا أبتي جعلتني مجرما في الدنيا ، زرعت الحقد في أحشائي وجعلتني بلا رحمة.
يبتعد مهران عنه قليلا سائلا إياه عن سبب قتله للحانوتي، فأجابه القاتل :
-أتسألني وأنت السبب، لقد باع هذا الخسيس أخته التي كانت حياتي وكل أملٍ لي في الحياة، فجعل هذا النذل حياتي بؤسا بعد أن كسر أجمل صورة لي في الحياة، ثم قتلت المهرج المسكين الذي كان يعشقها ولكنها كانت تنظر إليه كدمية مضحكة، فأنهيته من عذابه وقد كنت أريد قتلها أيضا ولكنها ضاعت من يدي في حانات المدينة والآن جاء دورك يا أبي، ركض مهران و اتجه إلى الحمام كآخر ملجأ له مسرعا مذعورا، حتى خبا الضجيج وخيم الصمت على المكان وابتل الورق..
حلب السريان القديمة 2007 شتاء
تمر العواصف حبلى بالغبار الكثيف، يتوزع التراب وتضيع الريح دون أن تنتمي إلى مكان، صريرها يجتاح الأفق فتبدو كهمسات لمن يتدفأ قرب الموقد، وكصفعات لمن ينام في الخارج ويئن تحت وطأة أنين الريح، تنبح الكلاب في كانون لعلها ترى البرد عارياً كعادته، وتتعرى الأشجار فتغتصبها الريح، وحدها شجرة البلوط تبقى محتشمة، والبحر لا يهدأ يمد قدميه الطويلتين، يتوجع الصخر وتلبس السماء ثوب البحر، ويلبس البحر حجاباً سميكاً تتدفأ الأسماك وتزعق النوارس لتغدو ترنيمة الوجع.
وحده يقف على الشاطئ دون ان يتأثر بالبرد، في داخله ليل من البرد بعد أن بدأ يرى الرؤى، يحدق في الأمواج العاتية، فيرى وجه الأحباب وسفن من غادروا، يتوقف شراع الذاكرة كبيرق أسود، كل أهل البلدة تعرف أنس الشاب الثلاثيني الطويل القامة والنقي الثغر والمسرول الساقين المحطوط المتن ذو الشعر الطويل والذقن الطويلة، والذي اتخذ الليل حبا والقمر معشوقة، والصبح بغضاً والشمس عدواً.
يمر أنس كل ليلة على الشاطئ محدقا في ما حوله وفي سقط متاع الأسرار هذا العباب الهائج، ثم يتوقف عند صيّاد السمك إياد والذي يرمي صتارة سمكه في البحر الصائم فلا أسماك تخرج في كانون، وإياد رمز أخر من رموز البلدة يغتي للبحر الذي لا يغدق عليه، ينتظر كل يوم ويرجع خاوي الوفاض بسلته الكبيرة التي تعتليها كوشة كبيرة.
هطل الثلج في ذلك اليوم بغزارة، وسعدت الاشجار بقبعتها البيضاء وانتشت السماء حين اشترتْ ثوبها الأبيض كأن العيد آت ، أما انس تسكع في تلك الليلة في أرجاء البلدة البيضاء قرب الشاطئ محدقاً في البحر وضوء خافت على ظهر السفينة يرنو كمقبرة جماعية للآمال.
مرت نسمة ريح عاتية، واستوقفت نظره فتاة تلبس ثوب الزفاف الابيض، خالها قطعة ثلج أو رجل ثلج ولكن ميّزها من شعرها الأسود الطويل الذي يتدلى ليصل إلى عجزها.
فرك عينيه وتساءل من هذه المجنونة التي تتجرأ أن تخرج من منزلها في هذا المساء المثلج، اقترب منها والموج يصفع الصخر، يئن الصخر مصدرا الإنكسارات.
-مساء الخير!
التفتتْ الفتاة نحو أنس، كانت غاية في الجمال بشعرها الطويل الأسود وعينيها النجلاوين وبياض بشرتها الثلجية، بيد أن وجهها شاحب وفي يدها زهرة خزامى ذابلة.
أجابت بنبرة هادئة: مساء النور.
-اعتذر إن تطفلت عليك أو قطعتُ خلوتك ولكن الجو بارد والثلج يغطي المكان، ستمرضين.
-وأنت الا تبرد؟!..
-أنا تعودت على الأمر وهذه طقوسي اليومية.
-وأنا تعودت الإنتظار والبرد.
-تنتظرين من؟!..
-حبيبي.
-آمل ألا يطول انتظارك، ما اسمك؟..
-آية، وأنت؟!..
-أنس .
- ما الذي يدفع بك كل يوم إلى التسكع ليلاً.
-مللتُ الحياة والبشر وربما لأني كشفت سر الحياة وانتهت اللعبة.
-وأي سر هذا؟!..
-هي أسرار كثيرة ألا ترين تفاهة الدنيا، لا عدالة ترسو الفروقات الطبقية تقتلنا، الفقير والغني، الأسود والأبيض، الليل والنهار، الثروة التي لا تورع بالتساوي انعدام توازن العالم، البعض يعمل الليل والنهار وبالكاد يجني قوت يومه، والآخرون لا يعملون تزداد ثروتهم كل ثانية ، لمَ لا نحيا سوية كلنا في قسط واحد، لمَ يُشترى الإنسان ويباع بالنقود التي أمست غاية وليست وسيلة ، أصبحت المبادئ تتناهى في غاية المال، لم أتأقلم مع المجتمع ، أحببت الصمت والتأمل وتعجبت لتفاهة الناس وسخف أحاديثهم وألاعيبهم السخيفة وفراغهم الممل، أردت ان يكون اصدقائي مثلي ولما أستطع ، آثرت الصمت والبقاء وحيدا.
-ما الذي تبتغيه من الحياة؟!..
حكّ أنس مؤخرة رأسه وفكر ثم تلعثم قليلا وأجاب:
-الحياة قصيرة وعلينا أن نقدم شيئا لها ونسعى ما دام الزمان يمضي بنا، قدمت بعض المخطوطات التي كتبتها أردت أن أكتب بالبياض كل ما يعتلي ظلام نفسي، هل تعلمين أن أسرار الحياة تؤرقني جدا وأحب التنقيب عن أسرارها التي تجعلني أشك في كل حقيقة على أنها وهم.
-ستؤلم نفسك وحين تصل إلى الحقيقة تكون النهاية حانت.
سطع القمر في تلك الليلة فبدا قاربا مبحرا وسفينة للشعراء .
-ماذا تعمل يا أنس ؟..
-عندما يتكاسل الجسد تعمل الروح، بقيت بين سراديب الكتب .
-إذاً هذي أسباب بعدك وزهدك؟
- بعضها ولكن منذ أن بدأت أرى الرؤى، حدث ذلك قبل عامين حين زرت قلعة قديمة أنا وصديقي ، وقفت أتأملها فتكلمت مع السلاطين والخدم ورقصت مع الجاريات، رأيت تاريخ تلك القلعة ونشأتها، حسبني صديقي إني اكلم نفسي، هو لم يرَ غير الحجارة.
- ربما كنت تحلم.
-الحلم حقيقة أو وهم أخر أو تاريخ نهرب منه، هي الضفة الأخرى من الحياة، بالمناسبة ما سر بدلة العرس هذه؟!.
- هربت في ليلة عرسي وانتظر حبيبي.
- وأنا انتظرت حبيبتي فتزوجت غيري، هل اليوم كان عرسك؟!.
- منذ زمن طويل، لم أعد اذكر.
خيّم صمت رهيب على المكان فض هدوءه حفيف أشجار البلوط. كأنها تفتح فأل المستقبل.
-ألم تشعري بالبرد؟!..
-لا أنا بخير لن أموت من البرد.
- أصبحنا اثنين لا يخشيان الموت، ممَ أخشى مادام النوم موت في تسمية مختلفة، الموت نوم طويل، تعبنا وشقينا في الحياة كثيرا ونهاية كل تعب راحة والراحة تعيد الطاقة لذا سنحيا ونموت كثيرا، "يصمت قليلا ثم يستطرد" أستأذنك الآن بالرحيل تباشير الصباح أينعت ولا أريد رؤية المدينة عارية على حقيقتها في ضوء النهار، هل لنا أن نلتقي ثانية؟!.
-سألقاك عندما أبتغي.
-ألن تغادري ؟!.
-لا سأنتظر.
غادر أنس إلى المنزل وصورة آية تسكن مخيلته، تبدأ غامضة الملامح ثم تتوضح كالثلج حين ينتحر على الأرض، وصل غرفته تقلب كثيرا وأصابه ارق حاد فغاب الرقاد، بزغت الشمس ولم يتضايق أنس من أشعتها، رسم وجه آية على الجدار ولوّنها بلون الخزامى ثم مضى إلى الشاطئ والبحر يشد حباله، كان الغيم معلقا كثوب على حبل غسيل الجبل، أتراه ينتحر!، بحث عنها لم يجدها، انتظرها طويلا حتى غفا قلبلا، تلوّنت لوحة السماء باللون القائم ففتح أنس عينيه وجدها جاثية قربه.
باغتته بنبرة هادئة:
-يبدو أنك لم تنم؟!.
-تغير أخافه واستغرب منه.
-لمَ الخوف؟!.
-لا أعلم وجهك لم يغادر مرآة عيني البارحة.
-أنت لا تعرفني ولا تعرف شيئا عني.
-أحيانا نهوى أحدهم من صورته.
-لستُ فتاة تُهوى، ثم أنا انتظر حبيبي.
- دعيني أشعر بقلبي يكفيني هذا لأنك تقلبين بقعتي الصغيرة إلى عالم واسع.
تكاثف هطول الثلج، وازداد بياض السماء كأنه حقول قطن، اعتلتْ آية صخرة وقفزت إلى البحر.
صرخ أنس مستنجدا وما من أحد حوله، قفز وراءها حتى كسر هدوء البحر فسخط العباب عليه في ليلة كشف الثلج أوراقه.
كان حفيف أشجار البلوط والزيزفون تلحن ترنيمة غريبة، وزهرة خزامى وحيدة على رمال الشاطئ أنهكها الماء المالح، لبس البحر تاج الشمس وذابت كل حقيقة ووهم، وانحل الثلج المسافر في ذلك الصباح الراحل، استيقظت البلدة لتستقبل على شاطئ البحر جثتين إحداها لشاب مازالت محافظة على كل ملامحها والأخرى لفتاة لم يبق من ملامحها شيء سوى فستان العرس، قد أكلت الأسماك جثتها، وقف الصيّاد إياد على الشاطئ ورمى سلة صيده إلى لجة البحر حافظ الأسرار.
تركيا -اسطنبول 27-7-2011
سكتتِ الموسيقى وانقطعتِ الكهرباء وساد الصمت وحلتِ العتمة، والظلام باردٌ، إذاً فهو وقت للتسكع والهذيان والكلام، في ليالي الشتاء الباردة وحين تتلون الأرض برائحة الرطوبة، يطيب لي التجول على أرصفة الشوارع لمشاهدة الأمطار وهي تغزو الأرض كالمغول، تعجبني هذه الأجواء المجنونة، وأسير وأفكر بالسيارات الغالية الثمن وماسحات الزجاج تمسح البلور ولاتتوضح الرؤية ثم أشرد في الزمن الذي سأملك فيه سيارة، وأتابع متوقفاً عند دكاكين بيع الملابس وأتأملها من وراء زجاجٍ غليظ القلب ثم أفرز الملابس التي سأقتنيها بعد عام أو مئة عام لا فرق، وأمضي والأجواء تزداد جنوناً والشوارع خالية إلا من هذه السيارات التي تضرب أضواؤها عيني فتعميها وتمسح الواقع لأغني عندها، وأغني عندما أتذكر إنني مازلت أفكر عشرات المرات قبل إقدامي على مواعدة فتاة في إحدى مقاهي العشاق الباهظة الثمن، فأنا المعتاد على الغناء في المحن ربما لأنني نشأتُ في جو رطب لا أجد المتعة إلا في الضباب والمطر.
وصلتُ إلى الشارع الذي أراقب فيه إحدى الحسناوات التي تطل من النافذة كالشمس، فتسكرني لأتصبب عرقاً، وأتوجه إلى البقال الذي يقابل بيتها وأشتري زجاجة مياه غازية وأرشفها بنفس واحد، ثم أخرج سيجارة تنفث همومي وأضيع مع دخانها، وأتابع المسير بالمشي سريعاً، إلى أن لمحتُ في ذك اليوم إعلاناً لأمسية موسيقية استوقفني، فقرأته وراقت لي الفكرة فأنا الغارق في الأصوات منذ زمن فكل صوتٍ له عليّ سلطانٌ.
صوت إذاعة دمشق يحي فيّ ذكرى أيامي الدراسية حين كنت طالباً على مقاعد الدراسة وأنا في الطريق اسمع تلك الأصوات الجهورية فكأنها ترانيم ذكريات الحياة.
ليس لجمال الصوت أحبه، فهناك أصوات على تعاستها أحبها لأنها تردني طفلاً صغيراً فكم اشتاق لصوت جدي، بصوته الدافئ كان يشعرني إنني طفل مازال يحمل همّ وظائفه المدرسية، وما شجعني لحضور الأمسية الموسيقية أنها ستردني إلى ماضٍ لم أعشه، إلى ماضٍ جميل يحمل خصلات من ذهب إلى زمان جون كيتس وبيتهوفن وحتى زمان أمل دنقل.
حضرت نفسي وقررت مرافقة صديقي( مجد) ليدفع ثمن بطاقة الدخول لذلك سأصحبه معي- مصلحة- فكل ما يريده المرء يرتبط بمصلحته.
هاتفتُ صديقي لينتظرني أمام المبنى، سرتُ في الشارع والرصيف يلمع حذائي وقلبي المليء بالغبار يمضي باحثاً عن شيء.
ألفيتُ صديقي أمام الصالة ثم دخلنا وانزاحت الستارة وحيتنا الفرقة، فدوى التصفيق في أنحاء القاعة وأول ما لفت انتباهي جمال العازفات.. ياه يا لهنّ من حسناوات! ..
كان بين العازفات فتاة متوسطة القامة ولها شعر لسعتها الشمس، وعينان من مروج القمح في نيسان، تلبس تنورةً تقابل صابونة ركبتها وساقاها أمردان كالصحراء، دققتُ النظر فيها وأنا المخطوف إلى عالم آخر فها هو جناحي يتخبط مرة أخرى يستعد للطيران يبدو إنه الحب يا ولد، تمتمتُ مع نفسي.
كانتْ حركاتها وتصرفاتها وكل ما تقوم به يوحي إنها من الطبقة المخملية التي أنا بعيد عنها، هي تعزف وأنا انجرف في خيالي وأفكر :
هي غنية عماذا أكلمها وأنا أول كلماتي عن الفقر وآخرها عن الفقر وإن سألتني عن نوع سيارتها فجوابي لها سيكون مرسيدس كوني لا أعرف غيرها، وإن سألتني عن نوع هاتفها المحمول سأقول لها شحاطة كالذي أملكه، ومن المؤكد إن بيتها ليس كبيتي الذي تتسرب منه الأمطار لو اشتدت، بل ربما يغطيه القرميد الأحمر والأضواء البراقة تشع منه.
هي تعزف الآن سيمفونية بيتهوفن وأنا أفكر بالعيش يوماً كما يعيش المخمليون تستهويهم المواضيع الهابطة والمجاملات السخيفة، لا كما أعيش أنا تستهويني المشاكل وأزمات الخبز والمازوت وتأمين قوت الغد، وأصاحب أصدقاءاً لهم جيوب مثقوبة..
أيقظتني من خيالاتي سونيتة موزارت لأنني أذكر إنني سمعتها في الماضي نعم هي أغنية فيروز‘‘ يا أنا يا أنا‘‘ وتعجبتُ كيف أخذها موزارت من تراثنا..!! ..ثم رجعتُ لأفكاري، وراودتني فكرة كيفية معرفتي لوضعها المادي، وبعد تفكير حدقت في صديقي (مجد) وهو يضحك بفمه الكبير فبانتْ أسنانه فعرفتُ الجواب، الغني في قريتنا يعرفونه من أسنانه لا يهمهم لباسه، المهم أسنانه لأن زيارة طبيب الأسنان عندنا تعني لنا محصول عام كامل، فأطباء الأسنان يحملون الصفات الشرقية ويطبقوها بحذافيرها، يكرمون الضيف ويجعلونه يزورهم على الأقل في الأسبوع مرة وإلا..
انتظرتُ أن تبتسم فتاتي كفلاح ينتظر الغيث أو البرّد، انظر إليها كي تبتسم، وأخيراً ابتسمتْ وبابتسامتها طرحتني شارداً وأخذتني إلى عالم من سهول وجبال كجمال ريف حلب، فضاع عليّ المشهد وأجلت الأمر إلى ابتسامة أخرى لعلي ألمح أسنانها ترى هل هي أسنان تعرى الثلج فيها كما يقول نزار قباني أم هي نوازل من مغارة كما أقول أنا.
بدأت مقطوعة أخرى ووضعت ذقنها على الكمان وأنا انظر إليها كما ينظر القارب التائه المدله بالسماء حين تضع السماء خدها على البحر، وأتساءل لربما صوتها يفوق جمال صوت الكمان.
انتهتْ الأمسية كما ينتهي كل شيء، إلا عندي دائماً بدايات، فقررت أن ألاحقها قد أينعت زهور المراهقة في سمائي وأيقظتني من نومي ليحتل القمر فراشي.
خرجتْ وركبتِ السيارة مع سيدة في خريف العمر وما كان مني إلا أن استقل سيارة أجرة لألاحق السيارة مع أنه ليس من عاداتي ركوب سيارات الأجرة إلا في المناسبات، السيارة التي تنقلني تلاحق سيارتها كما النهر يلاحق البحر وأنا أفكر تارة في عداد السيارة وتارة في جمالها.
توقفت سيارتها في أحد أرقى الأحياء وأمام بيت من أجمل البيوت، ونزلت وراءها بعد أن طابق عداد السيارة ما تحتويه جيوبي وسائق السيارة يرمقني بنظرات وكأنه يقول هذا جيل الواوا بح.
نزلتُ من السيارة بعد أن عرفت مبتغاي لأعود أدراجي مشياً على الأقدام أما قدميّ فقد تورمتا وأنا لا أشعر بهما، فأنا أحب الشارع وأشعر بالأمان فيه، من يترك الشارع يخاف منه ومن يصاحبه يحبه، منذ صغري أحب صحبة الشارع، في هذه الليلة أعمدة الرصيف قد أنارت طرق الفؤاد فيا له من يوم جميل، ما عاد الرقص والغناء في الظلام من شيمي فقد تغيرتُ، وصلتُ إلى المنزل وأنا أشعر بالاختناق لا أعلم أي شيء يحفز المرء للخروج، واعدتُ صديقي مجد بمقابلته في الحديقة على الرغم من قدمي اللتين أمسى الحذاء بيتاً ضيقاً عليهما.
جلستُ انتظر صديقي في تلك الليلة والحديقة فارغة، وأنا أتأمل الأزهار الماثلة أمامي تميل أعناقها وكأنها تستفهمني عن اسمها وكل شيء يتعلق بحياتها، فهل أنا الواقع في هواها أم المعجب بغناها لكني لم أرَ أسنانها لأحكم عليها سأحاول إضحاكها إن قابلتها هذه المرة، كنتُ أفكر إلى حين سماعي خطوات أقدام مجد، فموسيقى حذائه أعرفها من مئة متر فهي تصدر زقزقة لأن حذاءه المثقوب امتلأ بالماء، وبعد أن سلمنا على بعضنا، قال لي مجد:
-كيف حالك .
-الحمد الله وكيف حالك يا مجد؟ ..حديث ممل ٌ وساذج فما الحديث الذي تتوقعه من اثنين يتقابلان يومياً.
ثم بادرته بالسؤال : هل أعجبتكَ الفرقة؟.
-كانت مذهلة وخاصة عازفة الكمان، ملكةٌ في الجمال وكأنها ميمونة تلك التي يتكلمون عنها في كتب السحر.
من كثرة ما مدحها مجد وتحدث عنها زاد شوقي لها و تضاعف حبي لها حتى صار عندي شك بأن الحب شعور يكاد أن يكون الأخرون يشاركون في تعزيزه وتقويته في القلب.
واستطرد مجد : ما لكَ هل أعجبتَ بها ؟.
-نعم يا صديقي أتمنى لو أضع فراشي في المكان الذي عزفت فيه، ولو كانت أمنيتي الأخيرة سأتمنى أن تأتي على قبري فلا مشكلة مع الموت عندها.
خرّ صديقي على الأرض ضاحكاً حتى أزعجني وهو يقول: يبدو إنك عاشقٌ أيها المتشرد بين حانات الورق.
-ابحث يا صديقي عن حبٍ يبعدني عن المشاكل ، حبٍ يخلصني من حياتي العبثية، حبٍ بعيد عن ضوضاء الحياة ، حتى لو كنتُ باحثاً عن الحب في مثلث برمودا.
-أتهذي !..لقد رأيتها مرة واحدة وسقطت في هواها أي حب هذا إنه لا يناطح الإعجاب حتى.
-المهم إنها أسرت تفكيري وأكاد أحطم سجلات غينيس بالأرقام القياسية في التفكير بها، إنه الحب من أول نظرة .
-يبدو أنه سقطة ..ربما أعجبك أسلوب حياتها.
-من المحتمل فأنا تمنيت دائماً أن أكون كباقي الطلاب أهتم بدراستي ولا أهرب من دروسي، وأن أرافق الطلاب المجتهدين الذين يجلسون على المقعد الأول وهمهم الأول دراستهم، تمنيتُ مصاحبة من يلبسون النظارات الغليظة وأن ابتعد عن حياتي المشردة بين حانات الورق فقد سئمتُ كؤوس الكلمات والألم، اذكر أن أخي نصحني الدخول في أي مجال خارج الكتابة ، فالكاتب زاده ودواؤه الحزن حتى تخرج شياطين الأفكار، فتاة الكمان يا صديقي تعطيني شعوراً بأني أحن للحظات أريد أن أعيشها على سذاجتها، ربما هي طفولتي المفقودة، فتبدو لي كالأميرات من قصص الأطفال واللاتي عشقتهن في صغري.
-ما كل هذه الجدية يبدو أنك غاطس حتى الرقبة، لمَ لا تذهب وتقف أمام بيتها فتراها وتصارحها.
-فكرة سديدة ولكن عندي أمسية شعرية غداً لمَ لا أدعوها لعلها تأتي.
ودعتُ صديقي وتوجهتُ إلى المنزل، بيد أنّ قدميَّ تسيران إلى شوارع بيتها لقد أنستني شوارع بيتها شارع بيتي يا له من مدى طويل.
وصلتُ متأخراً إلى البيت وشغلتُ أغنية لأسمعها وأنام ، مرتْ الأغنية وجاءت أخرى أجمل فسمعتها أيضاً وقلتُ بعدها سأنام، مرّت الكثير من الأغاني و لصقتْ الشمس وجهها على دفتر الشمس ولم أنم بعد، جهزت نفسي وانطلقت إلى بيتها في الصباح، انتظرتُ ساعات بمحاذاة بيتها ولم تخرج، فأصابني شعور مرعب وشكٌّ قد لا يكون بيتها، وضعتُ بطاقة الدعوة لأمسيتي الشعرية أمام منزلها وأنا كمن يسحب بطاقة حظ ويا نصيب، وذهبتُ إلى الحديقة ونمتُ قليلاً على أحد المقاعد حتى موعد الأمسية وفي طريقي إلى الأمسية مررت بصالة تقيم حفلةً لأحد مطربي الواوا بح وما من مكان للوقوف منَ الازدحام الشديد، يبدو أن البطاقات نفذتْ .
حان وقت الأمسية وقدمني مدير المركز الثقافي إلى الجمهور الكبير الذي تألف من صديقي مجد وحده على الرغم من أن البطاقات والدعوة مجانية، المقاعد خاوية ومن حسن حظي أن مجداً حضر الأمسية وتحولت إلى شاعر جاهلي واقف على الأطلال، أما عيناي فتبحثان عنها في كل زاوية من القاعة وعلى الكراسي الفارغة، ولم أجدها لكني وجدتها في كل حرف مكتوب على صفحاتي.
خرجتُ من الأمسية بعد أن سَخّنتْ جيوبي ببعض المال وصرتُ أسير في المكان الذي عزفتْ فيه وأراقب المطرح الذي ساد فيه الظلام بعد مغادرتها، كم كان مضيئاً بوجودها، بدا لي المكان جرساً أخرساً، قلبي نهرٌ أهوج يوحي مدّه لي بالغناء فاعزفي لي يا فتاة الكمان ودعيني أبكماً ليست مشكلة فقط اجلسي واعزفي على أوتار قلبي، خاطبتُ نفسي.
تدلّهت بالموسيقا الكلاسيكية من بعدها ودرست تاريخ الموسيقا وأشهر عازفيها حتى أردتُ الانضمام إلى الفرقة والعزف على آلة موسيقية، ولكن الانضمام يحتاج إلى نقود والعزف يحتاج إلى قوس وكمان وأنا لا تتوقف النقود في جيبي فهي تدغدغني ولا أستطيع المسير دون صرفها.
مرتْ الأيام وأنا أفكر بها وأبحث عنها في الشوارع وفي جوجل ولا ألقاها إلا في قلبي، فكونت لدي شعوراً بأنها جنية أو بطلة قصة خلطت بينها وبين الواقع فهي البطلة التي أرسمها في كل قصصي، وما كان يعزيني وقوفي أمام المكان الذي عزفت فيه فيبدو المكان استراحة مسافر تحت ظل شجرة تقيه شمس الصيف الحار.
وجاء ذاك اليوم الذي حلمتُ فيه أنني أعمل سائقاً وأقود سيارة بدون مسجلة وفتاة الكمان بالقرب مني تعزف لي أما شهادتي الجامعية فمعلقة بدل شهادة القيادة، فاستيقظتُ وخطرتْ لي الفكرة وتذكرتُ لأول مرة إنني مجاز من قسم الإعلام، نعم أحمل شهادة جامعية وكم كرهتُ الواقع الذي يقتل الحلم عند استيقاظي، جميلة هي الأحلام، فليتَ الواقع كان حلماً!.. هاتفتُ صديقي وأخبرته بأننا سنذهب وسنكتب تحقيقاً صحفياً عن الفرقة الموسيقية فعساها لو كانت في إحدى بروفات الفرقة.
توجهنا إلى مدير الصالة التي أقيمتْ فيها الأمسية الموسيقية لم يرحبْ بنا جيداً، قلتُ لمدير الصالة إنني صحفي وهذا صديقي مجد مساعدي ومصور صحفي، طلب مني بطاقة صحفية فقلت له : نحن جريدة لا توزع بطاقات صحفية .
-لا يجوز إجراء المقابلة دون بطاقة صحفية .
-هل كل من يحمل بطاقة صحفية هو صحفي!.. أقولُ لما ابتعدنا عن الجرائد والمجلات.
-يا أخي لا يجوز هذا هو المنطق، انضمْ إلى إحدى المواقع التي انتشرت مؤخرا فهي توزع بطاقات صحفية عندها سأسمح لك بإجراء المقابلة .
فكرتُ وصديقي مجد خائف لأنه من عاداتي أن يديّ تعملان أوتوماتيكيا قبل أن يسعفه لساني، ومما زاد مخاوفه أن اللكمة تكورت في يدي فقلتُ له:
-أنا يا سيّد اكتب عن الشيء الذي يعجبني واقتنع به وأعشقه، وما من أحد يجبرني على كتابة شيء ليس من قناعاتي فأنا براء منها .. أخرجُ فوراً من النهر و لا أسبح فيه إن دفعني أحد مهما كانت ماء زلالاً.. أما إن أردت السباحة فأقفز من عشرات الأمتار ولا يهمني إن ارتطم رأسي بالصخر أو كانت الأرض طينا ً بدون ماء..
خرجنا من عنده والوجوم يغطي وجهينا ويا للمسكين حسب نفسه شخصاً مهماً لأنني أريد مقابلة فرقته ولا يعلم أنها لغاية في نفسي، أنا آتٍ من أجل فتاتي وما يهمني منك، والأهم من كل ذلك أنه حسبني مجنونا من كلماتي الأخيرة التي لم يفهم منها شيئاً وما مناسبتها ..
أشعلنا سيجارة أمام القاعة ووقفنا نتأمل السماء حتى دوت صرخة من مجد، أوقعت سيجارتي وبرّدتْ أعصابي كدلو ماء مسكوب عليّ، وهو يصرخ:
-تلك هي ..تلك هي..
نعم لقد كانت هي.. فها هي ذي قادمة ..والقلب يركض في سحاب باحثاً عن قمر نعم إنها فتاة الكمان، أوقفتها وقلتُ لها : مساء الخير، أنا كاتبٌ معجبٌ بعزفك.
-لم ترد علي فقط ابتسمت ومن ابتسامتها بانت أسنانها، نعم هي من الطبقة المخملية فشفاهها كضفتي النهر وأسنانها كذاك الغيم المعكوس من السماء، بياض كالثلج ترى أي معجون أسنان تستخدم كنتُ سأسألها ذاك السؤال ولكنها لم ترد سلامي فكيف لي بالسؤالات.. وأشرتْ بيدها لأعطيها قلماً وورقة.
استغربت من جوابها ثم أكملت : إني معجب بك ِيا آنسة وأمنيتي أن أتعرفَ عليك ..
صديقي مجد مستغرب.. ومن تنبؤاته أني سأفقد يوماً حياتي من جرأتي اللعينة.
أعطيتها قلماً فكتبتْ على الورقة: إنها خرساء .
صدمتني قليلاً، فقلتُ لها: لا مشكلة عيناكِ تقول ما يعجز لسان النساء قاطبة قوله، وأنا أحب المرأة الهادئة.
فكتبتْ على تلك الورقة التي تفيض زعيقاً، أنها مخطوبة وستتزوج قريباً وتعشق خطيبها.
قالت ذلك وكان شعوري كمن يجد شعرة في لقمته وصحن طعامه، كتبتْ ذلك وأنهت قصتها ولكن قصتي بدأت للتو وتوقفت مؤقتاً تنتظر في الذروة الأمل الكاذب، مشيتُ ذاك اليوم بعد أن نزل المطر وغنيتُ فأنا المعتاد على الغناء في المآسي، تذكّريني يا فتاة الكمان في كل قصيدة تقرئيها وكل أغنية حبٍّ تسمعيها.. أنا أغني وهي واقفةٌ في نهاية المدى.
حلب السريان القديمة 30-4-2009
كان المطر يهطل بغزارة و الشوارع خالية إلا من شخص واحد مازال يمشي تحت قطرات المطر غير آبه بها، متنقلا من حاوية إلى أخرى باحثا عن فتات الطعام، كان شخصا رث الثياب، طويل الذقن ، ذا عينين خجلتين ذابلتين ووجه تبدو عليه علائم ضربات السنين .
جميع أهالي الحي يعرفون المتسكع رامي من مشيته المترنحة ويده الدائمة في الجيب ووقفته الطويلة في الشارع، كما يعرفون شخصا آخر هي منيرة الفتاة الشقراء المشهورة بعينيها الخضراوين النجلاوين والقامة الممشوقة ، والهاربة من القرية لتضيع في زحمة المدينة و ليصبح جسدها لقمة سائغة للضالين.
كان رامي دائم الحلم ببيت يسكن فيه و يغريه منظر مكون من أربعة أضلاع فقد سئم من عمق منظور الشارع و من حجم البنايات العالية و ملّ من عواميد الكهرباء المنتشرة في أرجاء الشارع التي تعرقل نومه، لم يكن يملك غطاءاً يلتحف به سوى السماء و لا وسادة أو كتفا يضع رأسه عليها إلا أكياس القمامة و لا شمعة تنير دربه إلا ضوء القمر.
تأمل رامي في تلك الليلة منظر القمر بعد توقف المطر و اقترب منه كلب ضال فبدأ رامي يحدّثه فالبشر يتحاشونه، لا أحد يسمع رامي أو حتى ينظر إليه فهو نكرة جوكر، بادره بالسؤال: هيه ..أيها الكلب بعد السؤال عن صحتك و عن أخبارك؟! ، يبدو لي إننا أنا وأنت بلا مأوى و كلانا مشردان و لكن هل تعلم ما هو الفرق الوحيد بيني و بينك، يرد عليه الكلب بالنباح، حسنا!، أنا سأجاوبك الفرق الوحيد هو أنا إنسان و أنت حيوان، و يتابع، أتعلم إنّ كليّنا يوميا يأكل الركلات و الضربات و لكن الفرق الوحيد بيني و بينك إنه لدي فائض من الشعور أستطيع تصديره و أنت خال ٍ من الشعور، أنا إنسان و أنت حيوان .
وبدا الحوار مطولا إلى أن خرج رجل من بيت منيرة و نظر إلى رامي وتابع سيره، تأملت منيرة منظر رامي و لم يفارقها لحظة حتى عندما حاولت النوم, وخطر لها هاجس في كيفية تبييض سمعتها أمام الناس، ففي طريقها إلى السوق يلتم حولها أهل الحارة و يشتموها، فقد ساءت سمعتها إلى درجة لا تحتمل، فكم من النساء طلقوا بسببها، وكم من العائلاتٍ فرّقت شملها من جراءها.
خطر لمنيرة هاجس، فقامت بإشعال الأنوار و فتحت النافذة لتجد رامي غارقا في النوم ، نادته و لم يرد عليها، خرجت و حركته إلى أن استيقظ رامي خائفاً و مذعوراً، مبادرا إياها السؤال: ماذا تريدين مني ؟.
ردّت عليه منيرة بإجابة أنثوية مظهرة مفاتنها بفستانها القرمزي الشفاف : تعال و نم في الداخل، تردد رامي و أحتار ماسحا عينيه مستغربا، لعله منام كالأحلام الكثيرة التي كان يراها، ثم أجاب : ماذا أفعل بالداخل يا سيدتي، هل تريدين أن أنظف البيت أم أنقل بعض الأغراض؟!.
قبضت منيرة على معصمه و سحبته إلى بيتها و علامات الاستفهام تدور من حول رامي، فهي في الماضي كانت تشمئز منه و عندما تنظر إليه ترمقه بأسفل عينيها و إذ بها الآن تدخله إلى بيتها و تطعمه و تشربه الشاي الساخن و تجلب له صحون الفواكه والحلويات إلى أن شعر بتخمة لا مثيل لها، تحولت منيرة إلى حور عين وبيتها انقلب جنة لرامي.
يأكل بشارهة ولا يفقه شيئا من الموضوع ، و لم يلتمس حنانا كالذي التمسه اليوم من منيرة، و بعدها اصطحبته إلى غرفة النوم وقامت بتقييد قدميه و يديه، و جلبت سكينا و جرحت بعض المناطق من جسمها ومزقت ثيابها و رامي المسكين يبتسم ابتسامة المغفلين ..
قامت بعدها بالاتصال بشرطة النجدة و هرعت الشرطة إلى منزلها و دُق الباب ، فتحت منيرة الباب ليسألها الشرطي بلهجة غليظة:
أين هو ذاك السافل ؟!.
فأجابته: هاهو هناك لقد اغتصبني و بقدرة القادر استطعت التخلص من بين أنيابه إلا أنه بعد فوات الأوان ,فلقد فقدت عذريتي.. و تتابع باكيةً و الدموع تنزل من عينيها لترسم خطوطا على وجنتيها.
دخل الشرطي و العصا بيده إلى خلوة رامي فرفرفت رموشه، و قبض عليه الشرطي عاريا تماما و اصطحبه إلى مركز الشرطة بصحبة منيرة.
سارت السيارة إلى مركز الشرطة و كأنها تكتب حياة جديدة لرامي و منيرة اللذين ينظران إلى الشارع كل في اتجاه، ووصلت السيارة إلى المخفر، قام الضابط بالتحقيق بلهجة غاضبة: أنت أيها النحيل القذر هل قمت باغتصابها ؟، ابتلع رامي ريقه و ولأول مرة فكّر بعد فترة جمود و سكون أنه في حال الاعتراف بالجريمة فإنه سيدخل السجن، و آه ..ما أجمل السجن!، الطعام مجاني و الاستحمام أسبوعي عدا أنه سيلتحف غطاء و ينام بين أربعة جدران و يرتاح من صوت مازن العاشق السكير المعروف في الحارة الذي يعرقل نوم رامي, بينما كان يفكر قاطعه الضابط بصرخة:
ما بك أيها القذر هل أنت أم لا ؟ !.
فنظر رامي بقوة و لأول مرة و بإجابة ملء الفم و بكل قوة: نعم أنا الذي اغتصبها.
و نظر الضابط إلى منيرة بنظرة شفقة مخاطبا إياها: تعالي إلى هنا أيتها المسكينة اجلسي .. كم عانيت من أنياب هذا الوحش! .
أمر الضابط السّجان باصطحاب رامي إلى السجن و الابتسامة لا تفارق وجهه فهو في قمة سعادته سينام لأول مرة بدون ضجيج و دون إزعاج من أحد و لتتابع منيرة مسيرتها في وصولها إلى شهادة حسن سلوك و إنها كانت عذراء بريئة إلى أن جاء المتشرد القذر رامي وقام باغتصابها، وما الكلام الدائر حولها إلا إشاعات مغرضة و مجحفة بحقها، رحلت منيرة إلى حارة أخرى و تركت عملها السابق لتتزوج من ضابط الشرطة الذي أخذها زوجة ثانية، بينما تابع رامي مشواره في السجن عاشقا لظلامه.
حلب الشيخ مقصود 2006
لقد سرق اللص اليوم آخر أصدقائه، وبقي عامر وحيدا, عامر الكهل الذي بلغ من العمر أرذله، ماتت زوجته منذ عشرين عاما ولم تنجب له أولادا، لذا بقي وحيدا في حياته وخاصة بعد أن تم سرقة آخر أصدقائه، أهداه الله عينين قصيرتي النظر كي لا يشاهد خطايا جيرانه في سرقاتهم له وضحكات أبنائهم، وهم يسترقون النظر إليه لحظة تناوله الطعام .
كانت بشرة عامر سوداء على العكس من قلبه وعلى وجهه مرسومة خطوط وألوان تحكي مئات القصص، وتروي حكايا الوجوه.
القبعة لا تبرح رأس عامر و كأس المتة لا يفارق يديه، وبعد هذا النبأ الجلل وأخر حزن له في الحياة، أخذ عامر يهاب من كل شيء، فعندما داعب زفيف الرياح الباب ظنها طبلة السارق وعند سماعه حفيف الأشجار ظنها سيمفونية السارق، تمنى في تلك اللحظة بعد هذه المشاهد المرعبة أن ينزل القمر إلى الأرض وأن يضيء كل ظلمة.
أصبح حذرا من كل شيء ومن كل صوت ونظره الضعيف يترقب الباب خشية زيارة السارق الوحيدة، كان يخشى من هذا الضيف الذي يبدو خفيف الظل إلا أنه ثقيل ثقيل، فزيارته وحيدة ونهائية.
في ليلة اشتدت فيها الرياح وهي تصفع النوافذ والأبواب، والسماء تتجشأ على سطح بيته، تذكر عامر طفولته ووالدته وهي توقظه ليتوجه إلى المدرسة ثم تقبله و تضع له زاده في حقيبته القماشية، تذكر والده وهو يمسك يده مصطحبا إياه في نزهة إلى كروم العنب، رجع بذاكرته أيام لقائه بحبيبته عند عدوة الوادي سرا وهو شاب يمطر رجولة، وحنّ لأيام سفره مع أهله بالقطار البخاري وهوطفل يأكل الطعام في القطار ويتمشى في العربة تارة واخرى ينظر من النافذة، يتأمل المستقبل لم يعرف حينها أن المستقبل سيصبح حاضرا.
كان يحب التأمل من النافذة، ونظرة والده الحنونة وهو يمسح على رأسه بحنان، فسالت دمعة على خده التي اصطدمت بتضاريس الزمان، فكر كلما نكبر نزداد وحدة ويصبح سفرنا في رحلة الحياة أشد وحدة، تذكر أصدقاءه الذين تم سرقتهم وكيف كانت آمالهم وطموحاتهم ثم تحولت لمجرد رماد، وكلما كان يغرق في ذكرياته التي كانت تبدو له دمعة تسقط على راحتيه محاولا إرجاعه لعينيه إلا أنها تتناثر في كفه فهيهات عودتها، كانت توقظه صفعات الرياح على الباب التي تجعل عامرا يقف على قدميه المتعبتين من هذا المساء المتعب.
قام عامر وحضّر فنجانين من القهوة، الأول له والثاني لزوجته في ضريحها_ قد دفنها في الغرفة كي لا يأخذ أحد البيت إبان وفاته وتبقى مملكتهما السرمدية_ شرب الفنجان الأول ودخن معها سيجارة ثم سكب فنجان قهوة زوجته على قبرها فكأنها شربتْ القهوة معه، وبقي الفنجان دون أن يلمس شفتيها.
نظر عامر من النافذة إلى الخارج، ويئس من الأشجار العريانة، تشاءم و حكّ رأسه السافر إلا من عدة شعيرات ثم تحسر على أيام شبابه حين كانت تبدي الفتيات إعجابهن بشعره، وجلس بالقرب من الباب محدقا طويلا وهو يعلم جيدا أن السارق سيأتي من الباب المغلق بإحكام وبدأ يتخيل شكل السارق هل هو أبيض اللون أم أسود؟!، هل هو نحيل أم بدين؟!، مرعب أم ودود، يسرق بلطف أم بخشونة، وعندما كان يخمن ويفحص الاحتمالات، بانت أمام عينيه حبيبته الأولى أيام الثانوية وحبه الأول، عندها لم يشعر إلا بشيء يقفز من النافذة ويستل نظره، كان خفيف الحركة جدا وله أثر ليس كأثر الفراشة إنما أثر ثقيل جدا.
حلب السريان القديمة 22- 4 -2007
ملهم هكذا كان اسمه، عرفته أيام الطفولة حين كنا نلعب بالصور القديمة ونتبادلها، كنتُ أربح منه دائماً بالغش والحيل، رافقني أيام المراهقة حين كنا نتسكع في شوارع حلب تحت سقف مساءاتها المتعبة والمترعة، كانتْ أقدامنا تتورم أمام ديار حبيبة كل منا، وملهم رقيق جدا له قلب أرق من السلوفان وله مشية بساقٍ ثابتة وابتسامة فيها ظلّ من الغموض ، كان وقور السمت ومتين البنيان، يملك رقبة غليظة تكاد تخترق كتفيه ..
انتقلتْ عائلته من حارتنا منذ سنين فارعة و من وقتها لم أره، وفي ذاك اليوم الأهوج والسماء في مخاضٍ أليم، بينما أتسكع بحثاً عن عمل بعد أن تركت عملي السابق -الوظائف كثيرة والخيارات أكثر والمشكلة الوحيدة أنني أملك شهادة جامعية، أذكر مرة عندما أردت العمل في أحد المطاعم كان واسطتي أحد النادلين حتى عملتُ برتبة غوميك، فالله أعلم كم سنة أحتاج حتى أصل إلى رتبة نادل - وفي خضم التذكر والسؤال عن العمل دنا مني أحدهم وسلّم علي، لم أميزه لكني أشعر أني عرفته، وعندما حلّلت كيمياء صوته ميّزته فالأصوات لا تضيع، بدا لي شخصاً آخر وليس هذا ملهم فقد كان شاحب اللون ونحيل الجسم والآمال في جنازة الوجه تلف كفناً ، تحوّل إلى كهل أشيب، كأن بارقة الأمل في وجهه حطّ عليها غراب لعين ..
سلمنا على بعضنا وسرنا في الشارع والأسئلة تدق مضجعي، حتى تجرأت وسألته بسؤال محرج كوني خريج صحافة، فاستفدت من دراستي في هذه النقطة بمباغتة الضيف وإحراجه :
-هل تشكو من شيء يا عزيزي ؟ ..تبدو شاحباً!!..
-أنا مريض يا صديقي .
-وبماذا مريض ؟! ..عساه مرض هين وغير خطير ..
-إني أعاني من مرض العضال ..
لم يهزني الخبر كما كل مرة عندما استلم خبراً سيئا يصعقني ولكني لا أتحرك، فاستلمت الخبر وكأني غير مهتم ، ثم أخذت رقم هاتف ملهم وأخذ رقم هاتفي وعدتُ أدراجي وجلستُ في المنزل وبدأ مفعول الخبر يسري في روحي رويداً رويداً آه يا عقرب النبأ!، فكرتُ بالحياة وعندما أفكر بالحياة انقلب كهلاً وأدخل قوقعتي كالسلحفاة ، فكأنها عدو يتجهز لينقض علي، تؤرقني قصصها، وسؤالاتها تعيق تفكيري، فأسرارها مبهمة وأصعب من أسئلة العلوم التي كانت يمتحنوننا بها في شهادة الثانوية العامة دون أن أجاوب عنها فأنا عن أسئلة العلوم لم أجاوب، فكيف لي بأسئلة الحياة؟،. لم أفكر يوماً أني لن أرى ملهم مرة أخرى على الرغم من إني لم أره منذ سنوات عدة ولم أحزن وقتها لنواه، ودائما كان اعتقادي بأن من نراهم في الشارع لمرة واحدة وأصدقاء الدراسة في الطفولة وأصحاب المطاعم والمحلات التجارية وكل من نراهم لمرة واحدة هم أشباح وأطياف من العالم الآخر لمَ نحزن لفراقهم!؟، فأنجيلنا جولي من سابع المستحيلات أن أراها إذاً هي ميمونة في كتب السحر من العالم الآخر، ولكن عند تفكيري أن صديقي مغادر في رحلة أبدية أرقني ذلك ودفعني إلى مهاتفته:
-ألو !، مرحبا ملهم!، كيف حالك ؟.."سؤال غبي مني لمريض يعاني من السرطان ".
-أهلا كيفك أنتَ "أغنية فيروز كان يعشقها ملهم "
-الحمد لله ، هل تستقبل ضيوفاً بهذا الوقت المتأخر ؟!..
- على الرحب والسعة ..
جهزت نفسي والوابل يصدر موسيقى على أكواخنا النحاسية وانطلقتْ دموع المطر على النوافذ ، كان غيثا غزيرا وجريئا على عكسي فأنا تنزل دموعي كلما نزل مذنب هالي ، أما المطر فجريء جريء! ..
وصلتُ إلى ملهم وفتح باب الدار لي واعتلينا السطح وجلسنا تحت ضوء القمر، وللقمر أيضا عندي تساؤلاتُ، جلسنا وأنا شارد في النجوم الخجولة في سماء المدن، والجريئة في سماء القرى ، استفسرت عن مرضه فأجابني:
- إن الطبيب قد قال لي: إنني أعاني من مرض العضال منذ زمن، وأنا في مراحلي الأخيرة لذلك سأطلب منك شيئا يا صديقي ..
- تفضل!.. اطلب !..
- كما تعلم أن هذه الثواني هي ثوانٍ لك ولي هي سنواتٌ ذهبية والشهر أمسى عندي سنة ضوئية، والسنة سراب ، أريدك يا صديقي أن ترافقني إلى أماكن طفولتي وذكرياتي ، أريد زيارة كل شيء قبل رحلتي الأبدية ، فالمكان الذي نامت فيه ذكرياتي قد انتهت فترة استئجاره والآن سأوقظه للرحيل ..
- حسنا تكرم عيونك ..
وقفت لأودعه و استغربت من منظر الورود والأزهار في كل مكان من الغرفة، وتتربع على أرض الديار أيضا وكأنه فرش البيت وردا، يا له من قلب واسع يا ملهم!، هل سيسع العالم قلبك ؟!..العالم كرة مدببة ستجرح قلبك يا ملهم !..
في اعتنائه بالأزهار حرفية عالية فالورود متفتحة، قد شبعت من الماء، وتنسيقها خليط من كل الأفانين دون تفريق، سألته عن السبب فأنا الفضولي، أجاب: لا يحب التفريق بين الزهور، وعلّق مازحا: التلاقح بين الأنواع ضروري لسعادة الزهور .
غادرتُ بيته في ذلك اليوم وأعمدة الرصيف بدتْ لي كأنها تستفسر وتبحث عن أسئلة الظلام، مضيتُ وأنا أهتف للحزن، وفي صبيحة اليوم التالي توجهتُ إلى صديقي ملهم واتجهنا إلى قريته وفي الطريق بدا محدقا في كل جزء من دروب قريته، تقتله تساؤلات الأشجار، وصلنا القرية، وجلسنا تحت شجرة الصفصاف الواقعة أمام بيته وقال لي :
-هناك كنت أحفر خندقاً صغيرا لتسير منه المياه وأبني سدودا من تراب في وجه الماء، ولكن الماء يحطم كل شيء، كنت في الخامسة من العمر وعندما أرى جدي قادماً من كروم الزيتون بمنظره المهيب ووجهه الوقور أركض إليه فيحتضنني، كم كان حضنك دافئاً يا جدي!..وكم كنت جميلا بشروالك الأسود وقبعتك البيضاء وقامتك السامقة !..
أما جدّتي فكانت تطبخ لنا الخبيزة "البنجار" في المطبخ وهي تمشي مشية مقوسة بسبب ثقل وزنها، كم كانت جميلة عندما تخطئ في لفظ اسمي وكم كانت حلوة لكنتها !..
ثم توجهنا إلى فناء الدار وبدأ ملهم يشرد في كل جزء، وكأن فناء الدار بكرة شريط سينمائي لفيلم اسمه الذاكرة، جلسنا على كرسي من الخيزران وحدّق في دالية العنب وأوراق العنب تتدلّى، سال لعابه وقطف أوراقاً وبدأ يأكل منها، بعد أن رشها بالملح وتابع متحدثاً وأنا الصامتُ:
-أذكر إنني كنت أقف مطولا تحت هذه الدالية لأسرق منها العنب أو الحصرم، انتظر لتختفي عمتي فأسلب الحصرم وأحضر الملح وأبدأ بالأكل..
ثم أشر بيده إلى شجرة التين المتربعة في فناء الدار : هناك نصب أبي لنا حبلاً وصنعنا منه أرجوحة ، كانت الأرجوحة تهتز ومعها تهتز سنوات عمري، كنت أحسبُ العالم كله ملكي وأنا على ظهر الأرجوحة، اعتلينا السطح وأكمل:
هنا في ليالي الصيف كنا ننام على السطح تحت الناموسية والقمر جريء في السماء، ونجوم القرية قوية الشخصية على العكس من نجوم المدن الخجولة، وأبي يقص لنا حكايات بعضها من تأليفه وأخرى من خزائن التاريخ، كم كان صوتك دافئاً يا أبتي!، أما أمي فهي كمستمع متخفٍ تسترق السمع، وفي ليالي رمضان الجميلة كنا نتسحر ليلا والعائلة تجتمع ونضحك من طريقة جدتي في الأكل، فقد كانت تبلع الطعام دون أن تمضغه جراء أسنانها البالية، ثم تعاني من ألم في البطن لننقلها إلى المستشفى في الهزيع من الليل، وعند الإفطار تجتمع العائلة ونتسامر ونضحك فرحين دون أن ندري أن للفرح ضريبة .
ثم فاجأني حينما قال :
-سأصارحك بشيء يا صديقي ، إني أشتاق إلى أولاد عمي .
أجبته مستغرباً : عمك الذي نصب عليك أرضك وأكل حقك بعد رحيل والديك ..
-نعم ، إني أشتاق إلى أولاده، فكنا نلعب هنا بالكرة فرحين والدنيا كلها تدور بنا لا يهمنا شيء سوى اللعب، كنت أشعر بالاطمئنان لوجودهم وخاصة عندما كنا نرتع على بيادر القرية ، يا صديقي أريد لقاء عمي لأقول له : كمْ كنتَ غبياً، ردّ لي سنين عمري الماضية هل تستطيع إعادة طفولتي الضائعة يا عمي، أيا همي!، هل تستطيع إعادة تلك الفرحات والبسمات التي عشناها فسرقتها منا، هل تستطيع استعادتها بأموالك يا عمي المحترم، فالبعد والنوى لا يقربان المسافات بل يباعدان بين القلوب، والزمن يقضي على كل العلاقات إن تركنا العلاقة للزمن ، علينا أن نحل كل مشكلة في موعدها المحدد ولا نؤجلها، منذ سنين فارعة وعمي هناك في الضفة الأخرى وأنا في الضفة المقابلة له ، فكيف سنقطع النهر بدون جسر يربط ضفتيه وما من مضحٍ بيننا يسبح ويبلل ثيابه، مهما مشينا سنمشي على الضفاف أو نلتقي في المحيط بعد فوات الأوان.
لوّنتِ السماء أهدابها بكحلها الأسود ونفذت علبة الألوان البيضاء، وعدنا أدراجنا، طلب منّي ملهم النوم عنده ، لبيتُ نداءه وخلدنا إلى النوم .
قفزت الشمس كبهلواني في ساحة السماء، مضينا في الصباح إلى مدرسة ملهم الثانوية والتي درس فيها، جلس أمامها وبدأ حديثه :
هناك يا صديقي درستُ الثانوية كم كنا فرحين لا يهمنا ما يحدث خارج أسوار المدرسة، نضحكُ لمجرد نكتة غبية، أذكرُ مرة، نفذ مازوت المدرسة في الشتاء فوضعتُ خشب المقاعد في المدفأة وأعمى الدخان عيوننا لكننا تدفأنا و خرّ كل من في الصف ضاحكاً، لا أدري لمَ كلما نكبر نزداد حزنا، هل هو بناء تصاعدي هذا الحزن يا صديقي !..
في مدرستي هذه عشقت آنستي وأحببتها كلما كانت تدخل الصف كان قلبي يرتجف نشوة ، تدخل بتنورتها الطويلة وبلوزتها الحمراء، كان قدها ميّاساً يرسم تمثالا، وابتسامتها وشم على وجهها، كأنها شمس تدفئ الصف، كم كنتِ أحبك يا آنستي !..هل أصبحتِ عجوزا الآن والله لا استطيع تصوركِ إلا ملاكاً.
ثمّ أشر إلى حائط في المدرسة واسترسل :
مرّة هربتُ من المدرسة من فوق ذاك الحائط وعند هبوطي لمحتُ فتاة جميلة تتجه إلى المنزل كأنها مطار حبٍّ ، سلمتُ عليها ولم تجاوبني فلحقتها حتى عرفتُ بيتها، كنتُ كل يوم أنتظر أمام منزلها إلى أن تذهب إلى المدرسة ولو تأخرتُ عن مدرستي فلا مشكلة، كم من المرات عاقبني الأستاذ لتأخري..
وجاء يوم وكلمتها فكلمتني وطلبتُ منها الصداقة، فصادقتني على أمل أن أصبح حبيبها مستقبلا، عرّفتها على أحد أصدقائي ويبدو أن صديقي أعجب بها وهي أعجبتُ به كحبيب، وأحبّا بعضهما وأنا خرجت من اللعبة كالجوكر.
ثم أخرج ملهم سيجارة وهو يسعل ولم يتوقف عن الحديث:
لم أفاجأ! فالحياة علمتني غلاظة القلب ولكن للأسف، قلبي رقيق تمنيتُ كثيرا أن أكون غليظ الغصن كالحياة، ما عاد الحب حباً ولا الصديق صديقا يا صديقي، أضع رأسي على كتفك اليوم وغداً ستضع كتفك تحت تابوتي، كنت أراها مع صديقي كل يوم وكأنها تجاكرني وتغيظني، هي ترقص مع صديقي وأنا أحمل شال الحزن الأخضر بيدي وألوّح به هاتفاً وراقصاً.
قاطعته بعد أن رأيتُ التعب قد نال مضجعه :
حسناً لنذهب من هنا يكفي وقوفاً على الأطلال .
تأمل الطريق قليلا وغادرنا، وهو يتكلم :
"بعد وفاة والدي وقبلهما جدي وجدتي لم يبقَ لي شيء في الحياة أخسره، فالخسارة الكبرى أن تفقد والديك دفعة واحدة في حادث سير مروع، تربيتُ في دار الأيتام -حتى بلوغي سن الرشد- في مجتمع من الذئاب، الأقوى يبقى له الطعام الشهي، وكانت الناس التي تزور الدار تمسح بيديها على رأسك ، هل تعلم كم هي ذليلة تلك الشفقة؟، كم كانتْ تهينني!، كنتُ أعتبرها نقصا وأحسد كل عائلة تمشي سوية في الشوارع والأسواق، وأحسد رائحة الطبخ المنسابة من أحد المنازل التي يضج منها صوت العائلة ، هذا الخط جعلني طائرة ورقية بدون خيط، كنت أتناول طعامي لأحيا ولا أعلم ما هي الحياة، عشت فقيرا ،النقود يا صديقي تجعل الحياة سعيدة بكل تأكيد ، نعم النقود!، بالمال تستطيع الذهاب إلى مدينة الملاهي والجلوس في أفخم المطاعم وزيارة بلدان العالم ومواعدة أجمل الحسناوات، حتى أن ميمونة ملكة الجن سترضى بك لو قدّمت لها الذهب، جميل جدا يا عزيزي أن تأكل ما تريد وتحصل على ما تبتغيه، لا كالكلاب الضالة يسيل لعابك أمام رائحة اللحم، وزجاج قاسي القلب يفصلك عنه ..
لقد اجتمع بي شيئان الفقر والحزن بمغادرة الأهل، عندما كنت مراهقا، كنت أحسد كل أسرة جالسة في الحديقة العامة سوية، فالأب متمدد على العشب والأم تحضر الصندويش لأولادها والأولاد يلعبون كرة القدم وهم مطمئنون، آه.. كم هو جميل شعور الاطمئنان، لا تشعر به إلا في كنف والديك ! ".
حلّت العتمة بسرعةٍ ومضت الساعات كعداء يربح السباق دائما ودّعت صديقي ملهم إلى اليوم التالي ونمتُ فور وصولي إلى المنزل من شدة إعيائي وتشاؤمي.
في ظهيرة اليوم التالي توجهنا أنا وملهم إلى الجامع الذي كان يصلي فيه برفقة والده وصلّينا هناك، أعطاني ورقة قال لي هذه وصيتي لا تفتحها إلا بعد رحيلي، وتوجهنا بعدها إلى حديقة صغيرة كانا يجلسان فيها سوية وقفز قائلاً:
آه من هذا الصبار!، كم من الناس مرّتْ عليه ومازال قويا في الحديقة، لا زلت أتذكر وخزاته على أصابعي.
بعد هنيهة، راودتْ ملهم فكرة ذهابنا إلى السينما فقطعنا تذكرتين ودخلنا السينما، وملهم لا يشاهد الفيلم بل كساحر يستحضر ذكرياته مع رفاقه عندما كان يحضر الأفلام مع صحبته، ويتخيل نفسه الأمير في الأفلام الهندية والبطل في أفلام الكاراتيه، بدا يتكلم بصوت دافئ جدا :
كانت رفقة السينما من الطقوس المحببة إلي خاصة أيام الأعياد، نجتمع سوية ونذهب من الصباح الباكر إلى سينما تعرض عدة فيلما تلو الأخر بدون توقف، وكنا نخرج من السينما في التاسعة مساء ونتوجه إلى بائع الفلافل، نأكل ونحن نناقش الفيلم وقبل النوم نستحضر كل مشاهد الفيلم الفاتنة، جربتُ حضور السينما مرارا لوحدي ولكن لا طعم لشيء وحيدا، فالحياة بشعة بالوحدة ومرعبة ، لأن الوحدة تصنع من الظل شخصا، تشعرك بآخرك، وبكل عذر فيك وكأنها مرآة تستكشف جهنم مكنوناتك، جهنم تقبع داخل جسمك، ضعْ أي شيء في فمك سيذوب إذاً نحن أيضا نحاسبُ، ولكن أين الجنة في داخلنا؟!، نُدخل طيبا فيخرج خبيثا أي شر يسكن فيك أيها الإنسان ، تأكل الموتَ لتحيا !..
عدنا إلى منزل ملهم وجلسنا ثم حضرت كأسين من الشاي لأن المشروبات الساخنة تطيل الأحاديث ودليل على الرابطة القوية بين الشخصين، وتحدثنا عن الحياة والموت والأمل والألم ..
ثمّ نمت عنده تلك الليلة، أصرّ ألا أرجع خشية اللصوص أو دوريات الشرطة لا فرق، فالساعة تجاوزت الثالثة صباحا، استيقظنا متأخرين في ذلك اليوم من تعب السهرة، وبعد أن تناولنا الطعام سألته:
-إلى أين المسير اليوم ؟..
-إلى المقبرة، مكان جثوم حبيبتي ومكان سخف الحياة ..
وصلنا المقبرة والغروب يخطط السماء ، وملهم يحدق بالأضرحة ويعلق :
انظر للحياة كم هي مضحكة ومبكية، كل واحد من الأموات يحمل هويته الشخصية ، يعرّفنا على نفسه، وانظر إلى هذه الحسناء كيف تحولتْ إلى رميم، كانت حين تمشي في الحارة يجفُّ اللعاب من فمّ كل من يراها عشقا ، والآن إنْ خرجت من المقبرة ستجفف لعاب كل من يراها خوفاً.
كان اسمها مريم، فآه يا مريم يا اجتماع البداية والنهاية، مريم كانت مثلي وتشبهني كثيرا، كان لها قلب لا يسعه العالم، أحبتني وأحببتها ولكن أمها، لم ترضَ بي كوني فقيرا وكنت أقول لها: أنا فقير لكن قلبي كبير، بيد إنها ظلت عند قناعاتها وعقدتْ قران ابنتها من رجل غني يكبرها بسنوات طويلة، ومرة ًقبض عليها زوجها وهي تحادثني على الهاتف فقتلها وقتل معها آمالي، فأنا من بنى عليها بناء آمال، وكالهدّامة جاءت أمها وأوصدتْ الطريق في وجهي بحائط من اسمنت وقالتْ: كفى!، توقّفْ يكفيك الآن أحلاما..
أتعلم إني يومياً أزور المقبرة وأحضر معي فنجانين من القهوة، الأول أشربه أنا والثاني أسكبه على قبر مريم، فهي تشرب معي وأكاد أراها وهي تجلس بجانبي بصوتها المبحوح الجميل، لا أعرف ماذا أفعل يا مريم لأحميك من هذا التراب، كنت أخشى عليك من النسيم لو داعب وجهكَ، والآن تراب يغطي وجهك الفاتن ..
كم أشتهي أن أخرجها من القبر وألبسها بدلا من الكفن فستانها الزهري الذي كانت تلبسه لي يوم كنتُ أسير ليلا من أمام بيتها فقط لأراها، ليتكَ يا عمرُ تردني مرة فقط إلى وجهها، أخاف نسيان وجهها في زحمة الدنيا، ولكني قادم إليك يا مريم وروحي لديك أمانة.
عدنا من المقبرة بعد أن وضعنا الأزهار على قبر مريم، وملهم يقول لي أن الأموات يتنفسون من خلال هذه الزهور، ثم اتجهنا صوب الجامعة التي درس فيها ملهم، وبدأ يتلعثم ويصرخ :
كم أكره هذا المكان الذي يعتبرني الآن غريباً!، انظرْ لقد أخذ هؤلاء دورنا وينظرون إلينا كغرباء مع أننا كنا قبلهم من أهل الدار "أشار بيديه إلى الطلاب "، نحن من مسح الرصيف أحذيتنا، ونحن من ابتلتْ قلوبهم تحت أمطار هذه الأشجار، في الجامعة أذكر كنا شلة من الرفاق نجلس في المقصف صباح مساء، وعندما يريد أحدنا مواعدة فتاة نجمع له النقود، ونشتري له علبة سجائر من الدخان الغالي الثمن كي يتفاخر أمام حبيبته، ونجلس ونراقبه سعداء ..
تعبَ ملهم فأوصلته إلى المنزل وعدت إلى منزلي، وأنا جالس أفكر بملهم وحياته الشاقة، فكم له قلب قوي ولكن كيف استطاع الاستمرار إلى الآن؟!، يا له من شخص يقدّس الجمال، فالورود تملأ أركان المنزل والغرف تحمل في كل زاوية باقات الزهور والزينة، والياسمين يغطي فسحة المنزل، والريحان عند باب المدخل.
في صباح اليوم التالي كانت الشمس شقراء تسربل شعرها الذهبي، استيقظتُ وجسمي منهك من تساؤلات ملهم والحياة ، احتسيتُ القهوة ووجهتي ملهم، قرعت الجرس وما من ردّ، ناديته مطولا أمام المنزل وما من جواب، هاتفته وما من أحد يرفع السماعة، فعدتُ أدراجي خائبا:
أين ملهم؟!..أين ذهب يا ترى ؟!..هل عاد يسحب ذكرياته من مطمورة الذكرى؟!..آه يا ملهم، أيها الإسفنج اسحبْ ذكرياتك اسحبْ.
في الليل رجعت ُمرة أخرى إلى بيته وقرعت الباب ما من أحد، أقلقني ذلك، فملهم مريض بالعضال وربما في أي لحظة يغادر الحياة، ولكن الدكتور قال لي: إن الأعمار بيد الله ولكن ما زال هناك وقت لرحيله، ثم أننا لم ننهِ بعد سحبَ ذكرياته، فقد كان من المقرر أن نزور اليوم الأماكن التي عمل فيها كونه سبّع الكارات.
كسرتُ الباب ودخلتُ إلى منزله، ودخلة بيته أحبها كثيرا، فعبير الورود يعطر أرجاء المنزل ودالية العنب ترحب بالزوار ، كان باب غرفته مغلقا والنوافذ أيضا، دلفتُ الغرفة ورأيتُ ملهم مرميا على الأرض لم أتفاجأ فالنتيجة متوقعة لشخص خذلته الحياة ومريض يعاني العضال، بعد لحظات جاءت سيارة الإسعاف والطبيب الشرعي وفحصوا الجثة، فسألتُ الطبيب :
- لمَ توفي ملهم مبكرا، هل عطّل السرطان كل أجهزة جسده؟!، قد تركته البارحة وكانت حالته مستقرة .
- سبب الوفاة اختناق.
- ماذا تعني ؟!..هل هناك جريمة ؟!..
- لا لقد توفي جراء توقف التنفس بسبب نقص الأوكسجين ، فالغرفة مغلقة والأزهار سحبت كل الأكسجين في الغرفة فتوقف قلبه عن النبض .
صعقني جواب الطبيب وقرأتُ وصيته المكتوبة بخط يده : أن يدفن في ضريحٍ من زهورٍ نفذتُ وصيتهُ، وأنا احمل استفسارات كثيرة، هل انتحرت يا ملهم في هذه الحياة ؟!..وهل الزهور تقتل يا ملهم ؟!..آه يا ملهم كيف تجتمع البداية والنهاية.
دمشق مزة جبل شتاء 2009
إنه قادمٌ !، فهو يتسلل إلى قريتنا هذه الأيام كثيرا، نعم يقولون إنه مرعب جدا وذو شكل متوحش ومصارع يهابه الجميع، قد قضى على بطل الكاراتيه في قريتنا، صرعه وجعل عينيه تجحظان، كما صبغ بشرته باللون الأصفر وبعد أيام شربنا القهوة المرّة التي لطالما شربناها في قريتنا، وألبسنا بطلنا ثوبا أخضرا ووضعناه في بيوت الخاسرين ، ثم نصبنا له لافتة تدل على هزيمته.
كنتُ سابقا فخورا جدا بجدي ذو المنكبين العريضين والبنيان القوي والذي لم يكن يهاب شيئا، كنتُ انظر إليه كبطل يستطيع هزم المصارع، ولكن جدّي خيّب نظرتي به وتبدلت صورته أمامي، قد كان دائما يهابه وأذكر أنه اشترى ثياب المصارعة لأنه كان يتوقع لقاءه قريبا ، وكلما كان زفيف الرياح يداعب الباب كان جدي يستيقظ للمواجهة وقبل النوم يخشى أن يظهر له، ولكنه لم يكن يواجهه ولم يحصل أن واجهه فقد سافر جدي في ظلام حالك والرياح تئن والثلج يهطل بغزارة محاصرا بيتنا، ولم يعد، سافر بعيدا انتظرته طويلا، ولم يعد حتى توقعت أنه غادر باحثا عن بلاد الذهب.
كنا في القرية نتحدث عن أسرار المصارع ونتشوق لرواية أسراره وأذكر أن الخال أبو عمر الذي كان يناهز التسعين من عمره ، كان ينصحني بأن لا أنقب وراء أسرار المصارع فعندما تحين لحظة انكشاف سره نكون عند باب الحلبة وبدفعة صغيرة نغوص فيها وعندها لا ينفع الندم ، كمتسلق لجبل عالٍ وصل إلى القمة فأنهكه الضنى ولم يعد بوسعه النزول ، ثم لم أعد أرَ الخال أبو عمر، يُحكى أنه سافر إلى البلاد التي سافر إليها جدّي في سكون الليل، فرّ تحت جنح الظلام.
وفي ليلة من ليالي الشتاء الباردة، كنتُ جالسا في غرفتي وقبل أن يأخذ النعاس مني أوصدت الأقفال وأغلقت النوافذ، بدا لي ضوء في الخارج، فهل يكون المصارع يا ترى، سرى الرعب في داخلي، وضعتُ رأسي تحت اللحاف ربما لا أرى وجهه وتكون هزيمتي على يده أقل وطأة في نفسي.
وأخيرا جاء الصباح مع صياح الديك وخرجت أتسكع في القرية قليلا، كانت هناك أقاويل تتردد بأن المصارع بدأ بزيارة حسناء قريتنا وأنه يمشي بالقرب من بيتها كل يوم ويجهزها لدخول الحلبة، ذهبتُ لزيارتها وأصبحتُ أدربها قبل المباراة كما نصحها المدربون بتعاطي الفيتامينات، بدأتْ تقوى على المشي قليلا وأكملت معها إشعال بعض الشموع .
كنتُ أقف عند رأسها انتظر معها قدوم المصارع فإثنان في المواجهة أفضل من مواجهة وحيدة، ولكن المصارع كان يزورها عند غيابي ولا يرضى إلا بحلبة غور عميق ولا يحتكم إلا لعزلة دجالة حتى أن دموعها لم ترده عن قراره، و بدأتْ معنوياتها بالانهيار يوما بعد يوم، خاصة بعد أن فقدت شعرها في جولة خبيثة، فهربتْ من الحلبة، وقفزتْ من على نجد لتسبح في الوادي.
يُقال أن حسناء قريتنا بعد سباحتها في الوادي طارتْ، عندها بدأت أخشى الوحدة لدرجة غير طبيعية،وعندما فرض الليل وشاحه عزف قلبي نشيد الرعب وتوقعتُ قدوم المصارع الذي غزا قريتنا وأسقانا كؤوس الدموع، سمعتُ في تلك الليلة نباحا قويا من الخارج ونهيق الحمار، فأيقنتُ أن المصارع يقترب وكنتُ قد وضعتُ قفلا حديديا على الباب والنوافذ .
طق، طق، إنني أسمع صوت أقدام تدبّ على الأرض وتقرع النافذة، فأشعلتُ المصباح ونظرتُ حولي ولم أرَ شيئا ولكني نظرت إلى نفسي في المرآة فاستغربتُ وأنا ألبس وشاحا أخضر ووجهي مصفر اللون، وبدا لي في المرآة شكل المصارع وهو يقترب مني صرخت عاليا ولم يسمعني أحد ، صرخت طويلا وما من أذن صاغية، بقيت أصرخ دون جدوى، أدركتُ خطئي الكبير بإغلاق الأبواب حتى أنني لم أترك نافذة صغيرة مفتوحة.
دمشق-جديدة عرطوز 8-7-2008
يعتمر الضباب سقف المدينة، وهالات الذكرى تبعث مساكن الطفولة والشباب، لتردها إلى الحياة مرة أخرى، تنشر الأشجار صفحاتها على دفتر الأرض ودوواين التراب، تردد أغانيها حفيف الأشجار، إنه الخريف الكئيب يا قلب!، أيلول الباكي يردد ترنيمته، هذه الأجواء البائسة تزرع الكآبة وسوء الطالع في نفس فرحان أكثر مما هو عليه، فجسمه النجيل وقامته الفارعة لم تعد تحتملان حظه السيء، أمست عيناه ذابلتان وشفتاه خشنتان من إدمانه التبغ، رسم كثيرا ولم يشترِ أحد لوحاته ولم يحصل على نقود ليفتتح معرضا فنياً خاصا بلوحاته، قارع الثلاثين عاما ولم يحقق مبتغاه بعد.
كلما كانت تقاسيه أسنان القدر يفرغ جام غضبه على لوحاته فيكسرها أو يحرقها ليتخلص منها، أحب فرحان رائحة المطر وهيجان الغيم حين تغريها الأرض وتخلع لباسها، وتدلّه بسكون الجبال كما آلمه منظر الشفق، كان رساما حالما لا يفكر إلا بيومه وخياله، كسولا في مشيته متذمرا من حياته، يحلم أن يحيا كما في الأفلام الكلاسيكية في حدود الطبيعة وضمن بيت على سفح الجبل ، محبوبته حسناء ريفية، ناهيك عن عربدته وصرف نقوده على الحانات والخمرة، كان يصرف ما يكسبه على ملذاته الشخصية أو على الخروج في نزهة إلى قمة الجبل، ليرسم ما يبحث عنه إلهامه، كان يرد فشله تارة على الحظ ومرة على عدم حيلته وتفكيره المادي، فقد نشأ على المبادئ وعدم الكذب.
سوء الطالع يلاحقه ، استأجر مرة قطعة أرض صغيرة وزرعها قمحاً لم ينجده الغيث فجفّ محصوله ووقع تحت وطأة الديون، استأجر في العام الذي تلاه حقل زيتون كي يبيع الزيت، فأصاب الصقيع الأشجار ولم تعطه الثمار فخسر أيضا، اتجه إلى التجارة وبدأ يستورد المعدات الإلكترونية ويتاجر بها لكن الولايات المتحدة ألقت حصارا اقتصاديا على بلاده، فكسدت تجارته وتأزم وضعه وأخرجوه من بيته بعد عدم قدرته على دفع الإيجار، في تلك الفترة بدأ يتردد على بيت أصدقائه كضيف ثقيل لا يملك النقود، حتى ملّ منه أصدقاؤه إلى أن وجد له أحدهم عربة ليبيع عليها الحضار والفواكة، كان يتجه كل صباح إلى مركز المدينة وهو يلهث تحت عربته المثقلة كما يلهث تحت جسمه المتعب بالآلام والهموم ، في مساء ملوّن بسواد الغراب أوقف عربته على رأس رابية، و جلس على الرصيف ليفنث لفافة تبغ، كان يدخنها ويحلم مع دخانها أن يصبح شخصا غنيا مليونيرا، نسج في دخان سيجارته أحلامه، بيتا من القرميد الأحمر ومزرعة خاصة به وغرفة يلوّن ويرسم فيها لوحاته وكأنها معرضه الخاص، حلم أن يقتني بيانو خاص به ويعزف ألحان عشقها لكن وضعه المادي لم يسمح له شراء آلة موسيقية فمنذ صغره يحمل هموم الكبار برغيف الخبز، حلم بمدفأة جميلة تمنحه الدفء أيام الشتاء الباردة ، ففرحان يكره الشتاء لأنه يتذكر طفولته البائسة في البرد القارس عندما كانوا لا يملكون سعر الوقود في المنزل، فيلتحفون عدة بطانيات ويتكدسون قرابة بعضهم، يكره الشتاء حين يتذكر ذهابه إلى المدرسة بدون معطف، فتحرجه المعلمة بأسئلتها الفضولية عن عدم ارتدائه المعطف، كان يرمي حينها نظره إلى الاسفل ويبتسم بغباء، تلك الأسئلة الفضولية جعلت من حياته ومن نظرته إلى الأرض راسخة، فنسي السماء والعلو.
تخيّل أنه يملك مزرعة كبيرة فيها أشجار من شتى الأنواع، والهواء النقي يداعب الأغصان ورائحة النسيم تفوح في الجو ، ففرحان ملّ من روائح الفقر والجوارب الممزقة ورائحة الطبخ التي تدخل الغرفة كون بيته علبة كبريت، وأهم شيء أن الأشجار ستحميه من الشمس، فهو يكره الحرارة العالية وأشعة الشمس، لها رائحة ذكرى عمله في البناء والإعمار حين كانت مهمته أن يحمل البلاط تحت أشعة الشمس الحارقة والعرق يتقطر من خلفيته الصغيرة، كان يكره الشمس ورائحة العرق ولا يملك النقود ليشتري زجاجة عطر تمنحه رائحة جذابة، كان يتبلل بالعرق ويراقب "سراب" الحسناء التي يغطي بيتها القرميد ويكسو السقف زهر الياسمين، يتذكرها وهي تقف على الشرفة تسمع أغنيات تروق لها، وتبدل من أغنية إلى أخرى، أما هو فأي اغنية ستروق له فقط يريد ان يسمع وينسى ويتخيل ويضيع في رائحة الياسمين، وهواء المكيف يداعب فستانها الأرجواني، لترنو لوحة كثيرا ما رسمها فرحان، كانت تمسك تفاحة وتعض منها أما فرحان فيفكر بتفاحاتها المنتصبة وراء ذلك الفستان كم هي شهية لو وصلت لمساته إليها أو لو وضع شفاهه الخشنة عليها، كان يحبها حبا جما ومستعدا ليقبل حذاءها لترضى به، ولكن هيهات فبيتها من الريش وفرحان الولد الدرويش.
في خضم الذكريات ابتسم ابتسامة عريضة، فأيقظته صفعة مدوية على وجهه، فخرّ وافقاً، وإذ بالشرطة تقبض عليه، بحث عن عربته فلم يجدها، استفسر عن القصة انهالت الشرطة عليه باللطمات، ثم تبرع أحدهم وأجابه، أنه سيفهم كل شيء في المخفر، وضعوه في السيارة وهو يحدق من وراء زجاجها الغليظ القلب بالوجوه العابسة وبالطريق والناس وبالعدالة المفقودة وما يفعله القدر به.
بدأ يسربل خطاياه ويحلل شخصية أصدقائه من هم ضد الحكومة أو اليساريين، يلمس وجهه ويلامس لحيته ربما حسبوه من الإخوان، يفكر ماذا قال وبماذا فكر وببقال الحارة هل سلخه تقريرا كي يقبضوا عليه.
وصل إلى القسم استقبله رئيس القسم بتكشيرة بانت أسنانه الصفراء، فتخيله فرحان مصاص دماء وصاح صارخا:
-تعال ولك حيوان.
-لم أفعل شيئا يا سيدي ، روحي فداء الوطن .
-ما علاقة الدولة يا بغل؟!..
فتح فرحان فاهه كأهبل مغفل ..
-كيف تضع عربتك هناك؟!..ألا تعلم ما الذي حصل؟..
-لا يا سيدي والله نادم.
-أتنام يا حمار ولا تشعر بشيء مطلقا.
-ما الذي حصل يا سيدي، بالله عليك.
-صدمتْ عربتك عجوزا، يا دب.
بلع فرحان ريقه وضحك عاليا مستهزئا من حظه، فلطمه الشرطي .
-الحمد لله أن العجوز لم يمت أصابته جروح في قدمه ويده، وسنقدمك إلى المحاكمة غدا.
أجهش فرحان بالبكاء، وهويصرخ:
-والله لم يكن لي ذنب.
-خذوا الحمار الى السجن ..خذوه..
مكث فرحان شهرا كاملا في السجن إلى أن تحول إلى المحكمة، ولكنه كان سعيدا في السجن فقد كان الطعام مجاني والنوم أيضا وحصل على فراش، فضلاً عن أنه جو مناسب للكسل وللتأمل فحين يتكاسل الجسد تجد الروح دربها.
حانت وقت محاكمته، دافع عنه صديقه الوكيل "طارق" صاحب الدم الثقيل والخلفية الكبيرة والذي يبلع ريقه مع كل نبضة قلب، كأنه يعاني جفافا صحراويا في الفم، حكم على فرحان بالسجن لشهر ثم خرج وتمنى أن تطول مدة إقامته هناك.
خرج وهو يفكر بالواقع السيء الذي دخله، كان في السجن يملك أحلامه الحرة، ولكن في وطنه لا يملك شيئا حتى الأحلام ممنوعة وعليها رقابة، خرج وهو لا يملك فلسا على العكس عليه ديون صاحب العربة ، فكر في خلده إلى أين يمضي والدرب وعر طويل، كان يكفيه بيت وشارع واحد تساءل لمن كل هذا الطريق، كنتَ راقصا على الأرض الوعرة، الآن تحطمت اقدامك.
اتجه إلى صديقه المحامي طارق على موعد الغداء، والتقى به على طاولة الطعام، تجهّم وجه طارق البخيل من رؤيته ففرحان سينال على الأطباق كلها، شرع فرحان بالأكل حتى التهم كل الصحون أما طارق فقد ارتفع السكري عنده من شدة غيظه، ثم بدأ يشرب الشاي حتى دق جرس بيته، دلف رجل عجوز عتبة الباب وجلسوا سوية يتسامرون ويضحكون أحبّ هذا العجوز فرحان كثيرا وصاروا يتنادمون الخمرة كل يوم، وكلما كان يسأل فرحان طارقا عنه، يجيبه :
عجوز مخرف صديق والدي المرحوم.
انتبه فرحان لنقوده الكثيرة وصرفه الباذخ وتعجب من أين يحصل على النقود؟!، ثم يرجع إلى أحلامه، أن يصبح غنيا كهذا العجوز سيصرف أضعاف ما يصرفه، مضتْ الأيام وسكن فرحان مع العجوز في قصره الكبير، كانوا متلازمين كثيرا، يخرجون سوية ويطبخون معا ثم يذهبان إلى الحانات للشرب، كان العجوز يجد في فرحان شبابه الضائع.
ذات مساء، استيقظ فرحان ولم يجد العجوز بحث عنه ولم يجده وانتبه إلى خزانة النقود المفتوحة فتحها وكأنها شبّاك السماء، إنها حوالي مليوني ليرة سيحقق أحلامه فيها وينسى نشأة الفقر هذه، سرق النقود ووضعها في كيس وهرب من بيت العجوز كان ضميره يؤنبه ولكنه ردد في نفسه هذه فرصته الذهبية التي طالما بحث عنها في حياته واستثمرها جيدا، على الحدود قبضتْ الشرطة عليه وهو يحاول الهرب إلى بلد أخر.
أخذوه إلى المخفر وجد نفس الضابط بانتظاره وصديقه المحامي طارق جالسين، خاطبه الضابط وهو ينفث من سيجارته.
-ها انت تعود إلينا مرة اخرى، من يدخل السجن يعود إليه مرة أخرى، تتعلم قدماه إنه إدمان السجن، نيكوتين الزنزانة.
أما طارق فقد كان ينظر إلى فرحان بازدراء شديد وقنوط مرير، ثم قال له:
-له له يا نحيل لم أكن اتوقع أن يخرج منك هذا التصرف الكريه، طبعا أنا هنا لا لأدافع عنك بل لأقول لك كلمتين، هذا الرجل العجوز الذي سرقته فقد ثقته بآخر شخص وثق به ، الكثيرون خانوه حتى تبرى من كل أولاده بعد أن تركوه وركضوا وراء ملذاتهم، وهو مريض لم يبق له سوى أربعة أشهر من عمره كما قال الأطباء مؤخرا، كان يجد فيك شبابه وابنه وحياته ووثق بك كثيرا لكنك خذلته، أتعلم قبل أربعة أيام من سرقتك له كتب وصية وتركها عندي ولم أفتحها ولكن بعد سرقتك زارني، وتفقد وصيته وقرأها علي كان مكتوبا فيها أن نصف أملاكه هي لك وتقدر بخمسين مليون والنصف الآخر لدار الأيتام، ولكن بعد سرقتك غيّر من وصيته ونقل نصف أمواله لي، والنصف الأخر لدار الأيتام.
تسمّر فرحان في مكانه وفكر في السجن وبالفرصة الضائعة، وتأمل طويلا فرصة قادمة .
تركية بورصة فندق ماري جولد 30-8-2011
حين تنأى المسافات وعندما يبخل عرق السنين في ريّ باقات القلوب الذابلة، أصبح للحزن عنواناً، وأنتَ أيها البعيد الهائم بالضباب جعلتَ من قلبي مدينة للضباب فسرقتُ الاسم من لندن، أين ذهبتَ؟!..
لم تعدْ رسائلك، عشرون موتاً من العمر وأنا انتظر رسائلك ولم يحضر ردّك، هل قتل الصيادون الحمام الزاجل في الطريق أم تعطلتْ مصلحة البريد في أوربا أم تراها ضاعتْ الرسائل في الضباب، كما ضعتَ أنت.
تضيعُ الأزمنة في النوى، لا طعم للسماء ولا حرارة الشمس تدفئ القلوب، طريقي متعبة وغامضة أين كريستوف كولومبس ليستكشفها، لقد كبر ابنكَ يا يوسف أمسى شاباً في العشرين من العمر .
نعم ابنك سرفانتس، يسألني أين أبي فأقول له :إنه يقبع وراء البحار كتلك النوارس البعيدة ..
تكتب الساعة التاسعة موتها في الرابع من شباط
مساءٌ متعبٌ في (الناطور)
زوجتك المشتاقة عائشة..
انتهتْ عائشة من كتابة رسالتها إلى زوجها يوسف الذي هاجر إلى أوربا منذ عشرين عاما بعد ولادة ابنهما سرفانتس بأيامٍ، تكتبُ عائشة رسائلها ثم تضعها في الخزانة كونها لا تعرف عنوان زوجها، فقط تكتب وتضع الرسالة في الخزانة حتى تكوّن لديها كمية كبيرة من الرسائل، فكأنّها تحرر رسائلاً إلى السماء .
عائشة المرأة التي بلغت عمر الشمس في أوجها، طويلة القامة، سمراء البشرة، لها عينان عميقتا الغور، تركها يوسف بُعيد سنة من زواجهما ليسافر بحثاً عن المال وليناطح طواحين دون كيشوت الهوائية، في ليلة كانت فيها السماء حبلى غادر إلى أوربا على اتساعها دون أن يحدد الوجهة، إيماناً منه في تجريب حظه ولم تصل رسائله مدة عامٍ كاملٍ إلى عائشة وابنها المسكين سرفانتس الذي أسماه يوسف حباً بالكاتب سرفانتس، وتيمناً بأنه سيشرق ذات يوم، بعد قضاء عام على سفر يوسف، طرد صاحب البيت عائشة وابنها من المنزل لعدم دفعها الأجرة، وباع البيت إلى صاحب محل وجبات سريعة مما دفع عائشة إلى استئجار منزل في حي شعبي وبدأتُ تعمل بالحياكة لتكسب لقمة عيشها.
أما يوسف فبعد مرور عام بدأ بإرسال الرسائل لعائشة، فكان صاحب الوجبات السريعة يتلقاها ويلفّ بها السندويشات، كم سال اللعاب والطحين على رسائل يوسف المرهقة كما سالتْ الأحزان على القلوب!.
عجيبةٌ شوارع (الناطور)، عجيبة الليلة، الشوارع خالية لا ترنو منها حتى القطط، ربما لم تعد القطط تجد ما يؤكل في أكياس القمامة، تعجب سرفاتس من شوارع (الناطور) تلك الليلة وهو عائد إلى المنزل يحمل كتبه بين يديه ومصيبةً في فؤاده لأمه المسكينة المشغولة بحياكة الصوف و كار الخياطة.
-مرحباً أمي !..
-أهلا بني!، قد تأخرتَ يا سرفانتس وانشغل بالي عليك!.. أين كنت؟!..
-كنت عند أحد أصدقائي أدرس هناك، أسرعي يا أمي وضعي لي ّ العشاء، أكاد أموت جوعاً.
-حسناً!، لم أطبخ الليلة، ظهري يؤلمني منذ يومين من الجلوس الطويل خلف ماكينة الخياطة، ولكني سأضع لك علبة سردين مع ليمونة .
وضعت الأم العشاء وبدأ سرفانتس بالأكل وباغتها بسؤال فيها نبرة تصيح إصراراً:
-أمي أريد السفر إلى البرتغال لأتمم دراستي هناك .
كان السؤال الصاعق يدق مضجع عائشة، فمن جروح الزمان لم يبقَ مكانٌ لهذا الجرح، ولو سافر سرفانتس فمن سبيقى لها في الحياة ، هل سيضيع سرفانتس كما ضاع والده، فأجابته وهي تنظر إليه كما ينظر المظلوم لجلاده :
-هل ستذهب وتتركني، وتخطو منحى والدك ، وتضيع كما المطر الضائع على النوافذ.
-لا يا أمي لست كذاك الخائن، أبي يا أمي مثل حبة الفلفل في علبة السردين هذه، التي رميتها ولا يأكلها أحد كما رميت والدي من قلبي منذ لعنتني الحياة، مبشرة بالحزن .
-كيف ستدبر مصروفك وماذا ستعمل، ومن أين لك المال للسفر؟! ، وأين ستحصل على تأشيرة الخروج ، ومن لنا هناك؟!..
-سأتدبر نفسي فقد غدوت رجلاً سأعمل هناك، سأصطاد السمك بكثرة فأنا صياد ماهر وسأدرس أيضاً ، لا تخافي عليّ، أما بشأن السفر فسنذهب بالسفينة عن طريق البحر، وقد اتفقنا مع سمسار محترف.
-تتكلم كما تكلم والدك، كان يقول لي من لا يصعد الجبال لايسمع دوي صوته في الوديان، كان يردد ذاك المبدأ السخيف ونسي إنه متزوج، فمن سيفتح نافذة غرفتي إن غرقت يوماً في النوم يا بني!، أخاف أنك مسافر للبحث عن أبيك.
-لا يا أمي، لا أخفيك أني أفكر بالذي يفعله والدي، ترى في أي بلد يقطن؟..هل يسمع خوليو إيجليزياس ويعزف الجيتار ويرقص التانغو وهل تزوج إسبانية ذات شعر طويل مسترسل ؟!..من يشبه أبي الآن أيشبه أنطونيو بانديراس ؟!.. ماذا يعمل أكان رحالة كابن بطوطة أم كان شاعرا كروخاس هيرارو أم تراه يناطح طواحين دون كيشوت أم أصبح سانشو بانزا وصدق أكاذيب أوروبا حتى حوّلها إلى يقين، عندما أعرف يا أمي أن أبي وراء تلك الجبال أصعد ولا أتوقف، ولكن عندما يكون سراباً أتوقف وأبكي.
انتهى سرفانتس من عشائه ولم تجبه عائشة عن أسئلته، بل كانت الدموع تغسل وجنتيها من تعب السنين، ولتكون طابعاً لرسائل الحزن .
ثمّ اخرج سرفانتس سيجارة وبدأ ينفث فيها غضبه مما أزعج عائشة، فصرختْ.
-بني ما زلت غضاً وتدخن كالعجائز، لقد شاخ قلبك وأنت شابٌ .
-أمي ألذ ما في الدنيا سيجارة بعد الطعام - إني أمازحك- ولكن انظري إلى الغرابة، قد بدأت السيجارة بيد المتسولين الإسبان ثم صارت بيد النبلاء والآن رجعت دواءً للفقراء والضعفاء، نعم للضعفاء يا أمي فالضعيف لا يستطيع صرع أحد فيصرع السيجارة ويضعها تحت قدميه ، فلا تحزني عليّ أنها تجعلنا لا نشيخ ولا نهرم، فنموت مبكراً .
-اصمتْ ودعك من هذا الكلام الفارغ ، أنت أملي الذي أحيا في سبيله وها أنت يا أملي تخونني كقوس قزح تسخر مني..
-سأذهب فقد اتخذت قراري لعليّ في أوربا أصادف أبي وأقول له :كم كنتَ غبياً!.. قالها سرفانتس وغادر الغرفة كما غادر الأمل عيني عائشة .
أما يوسف الضائع في ظلال أوربا الباحث عن ضآلته، كان يحضر رسالة إلى زوجته وولده ، و بدأ يسطّر فيها من دواة الغربة :
زوجتي العزيزة عائشة !
ابني العزيز سرفانتس!،
إني في شوق لقياكم، السماء عميقة الليلة والأمل مختفٍ وأنا طائرة ورقية بدون خيط لحظة غادرت إفريقيا من رحم ضيق دفعني إلى الطرف الآخر، في الوحدة لا طعم للأكل ولا طعم السيجارة الوحيدة التي يتضور لها المدخنون تجدي، كم كان حساؤك شهيا يا عائشة !.
أخبري سرفانتس بأنه ليس وقت الحزن، فالربيع قد حان ولندعْ الحزن لأيام الشتاء، قد بان الزهر على الأغصان ، أحلم ُيا عزيزتي بالجلوس تحت ظل شجرة في الحقل ، تأتيني بالطعام وأنا مرهق من عملي في فلاحة الأرض، نأكل سوية دون أن نحدق في أخطاء بعضنا البعض والطعام ينسكب على لباسنا ونحن نضحك دون ارتباك، بعدها استلقي وآخذ غفوةً، وابننا سرفانتس يلعب وكلما أحلم يأتيني ضباب ضائع مثلي يصحيني ويقول لي :
أيها الضائع بين البحر والمحيط قم يا صديقي!، آه يا عزيزتي جفتْ الدموع من عيون شباط على الرغم من تلبد السماء بالغيوم فقد تاهت مراكبنا بين البحر والمحيط، انتظروا قدومي أنا قادم قريبا آمل أن تتعرفوا علي إن جئت لا كرسائلي التي أرسلها منذ زمن ولا تصلني أي ردود .
جهز سرفانتس نفسه للسفر و وضب حقيبته وبعض دمع أمه التي تندب حظها كعويل الأرامل، لم ينجح ذلك في تثبيط عزيمة سرفانتس بل قبّل يديها وودعها فأمسكت عائشة ذراعه وقالت له:
-انتظر يا بني إنْ رأيتَ والدك قل له أن خطاياه تعدت الخطيئة الأولى لمورافيا ولم يكن هجره دعابة من دعابات الطقس الحار، وقل له أني اشتقتُ له ما أنا بناكرة ، وقد جربتُ كل أنواع السحر واستحضار الجان ليعودَ وما من فائدة، ولكن لا تريه صورتي كي يحتفظ بصورتي الجميلة في ذكراه وقدي المياس في محياه، فالصور حرام يا بني ترينا تغيرات في أشكالنا نهرب منها .
قبّل سرفانتس يد أمه واتجه إلى قارب السمسار ليغادر إلى البرتغال عن طريق البحر كونه لا يملك تأشيرة سفر نظامية، ركبَ القاصدون البرتغال السفينة التي لا تحتمل أكثر من عشرين راكباً، وكان عددهم يفوق الأربعين شخصاً .
شقّت السفينة طريقها في عرض البحر والتيار قوي، يقطع المركب العباب، وسرفانتس وضعه كوضع المد والجزر متردد بين منزله وحلمه، يفكر تارة بحسناوات البرتغال وجمال لشبونة وبالبيوت القرميدية، وتارة يفكر بأمه عائشة الحنونة التي أفنت شبابها بتربيته، وحيناً يفكر بعمره الذي قضاه كزبد البحر دون فائدة تذكر، ولحظة غرقه بالتفكير سمع صوت ربان السفينة يصيح بأن الضباب كثيف والخطر جريء، وما هي إلا لحظات حتى اصطدمت السفينة بمركب قادم من أوربا وانقلبت السفينتان وتحطمتا، فسقط طاقم السفنتين في البحر وسرفانتس يختفي في الماء حتى شعر بيدٍ تمسكه وترفعه إلى الأعلى وهو يلهث، سأله الرجل :
-ألا تجيد السباحة يا ولد.
-لا ..لا ..لم يعلمني والدي السباحة .
-كم كان والدك غبياً لأنه لم يعلمك السباحة!.
-لم أرَ والدي حتى أحاسبه، فقد غرق والدي كما غرق المركب الآن، على كل شكرا لك يا سيدي! .
-ليس وقتا للشكر، الضباب كثيف الآن ونحن ضائعون بين البحر والمحيط لا نعرف أين وجهتنا وربما نموت هنا .
-يبدو أن ساعتنا الأخيرة قد حانت ومسح اسمنا المكتوب بالطباشور على لوح السماء، فأخبرني يا سيدي عن اسمك وليكن وداعي للدنيا بوجه خير وخاتمة جميلة.
-اسمي يوسف وأنا قادم لأرى زوجتي وابني اللذين لم أراهما منذ عشرين عاماً، كم اشتاق إلى أفراح وأحزان (الناطور)!.
فكر سرفانتس وقال له: اسمي طارق، اسمي طارق .
كان يقولها سرفانتس وهو يردد بينه وبين نفسه :
دعنا نشرب الملح، دعنا نشرب الملح ، ذاكرة الملح قوية تمتن الروابط .
حلب 14-10-2008
*الناطور مدينة في المغرب.
متطفلٌ ولم يغير من طباعه، هكذا نشأ يحرجُ الناس بأسئلتهِ الفضولية، كأنه من فصيلة الطفيليات يقتاتُ من فتاتِ الآخرين وأسرارهم، فأول استفساراته للنساء عن أعمارهنّ وللمطلقاتِ عن سبب طلاقهنّ وللكتّاب عن أول خطأ إملائي أو قواعدي يصادفهُ.
منذ صغرهِ يحبُّ كشف أشياءٍ تأبى الظهور، كأنه حصّادة تعري الأرض وتكشفِ أسرارها، ومرآة تبرز تجاعيد الوجه وأعذاره، هو طويل القامة ونحيل الجسم، له أنف طويل كمنقار نقار الخشبِ وشفاه رقيقة وأسنان تباعدت عن بعضها ورفضتِ الوحدة، كما يملك شعرا أحمرا مجعّد بالإضافة إلى ندبة تعتلي وجهه، فتبدو ككيس بلاستيكي معلقٍ على شريط كهرباء .
في خضم الثورة التقنية اقتنى فاروق حاسوباً واشترك بخدمة الشبكة العنكبوتية، وأول ما فعله حضّر برامج تطفلٍ على البريد الإلكتروني للآخرين، وتعلم طرقاً لسرقة واقتحام بريد الناس، نبش وسبر بريد الكثيرين ووصل إلى مبتغاه والساعة تدقّ اثنتي عشرة دقة صباحاً، حينما كان يوم يكتب شاهدة قبره وأخر يخط شهادة ميلاده، وهذا البريد الذي توصل إليه فيه الكثير من الصور والرسائل الشخصية التي تشبع فضول فاروق، فحفر في لجّة البريد، ليرى صور عائلية وأخرى لنساءٍ عاريات.
الغرفة هادئة وباردة جدا والرياح تعصف فتهتز النوافذ، أما الستائر تتموج كأنها نساء تتراقصن، وفاروق حرارته عالية فقد اكتشف في البريد المقتحم صورة امرأة ترقص وأخرى في حضن زوجها والأخرى تغتصب من قبل رجلٍ.
ألقى نظرة على اسم مالك البريد، فوجد اسمه مازن، وبعد أن أشبع فضوله سمع صوتَ خطوات تسير في الممر فحسبه والده،، أطفأ الأنوار وخلد إلى النوم .
رأى فاروق في حلمه امرأة لها شعر طويل أسود مسترسل و داكن لا تبدو ملامح وجهها جيدا، لكن عيناها بيضاوان لا أحداق فيهما، ومن فمها مُسح أحمر الشفاهِ بطريقة عشوائية حتى غطى وجهها، ترتدي فستاناً قصيراً من الصوفِ والخيط يُسحب من ثوبها رويداً رويداً حتّى تظهر عارية تماماً، تقتربُ من فاروق وهي تزحفُ، تحاول خنقهِ صارخة بصوت كصوت المبرد على الأظافر: سأقتلك يا قاتلي!..
يهرب منها فاروق ويفكر أين رآها فوجهها مألوف، وعندما وضعتْ خيط الفستان على رقبته، استيقظ فاروق وهو يتنفس الصعداءَ، كان ظلام دامسٌ يغطي وجهَ الغرفة، جلس على فراشه وهو يلتفت حوله وفجأة أُنير مصباح الغرفة وانطفأ، وهدوءٌ تامٌ يدق مضجعه مواء قطة هستيرية من الشارعِ.
ترك فاروق فراشه واقترب من النافذة وحدّق في الشارع المظلمِ، مشط الطريق بعينيه وما من ضوء يرنو وقبل أن يغلق النافذة رنا ضوء خافت وراء الشجرة وكتف أحدهم ، إزداد الضوء توهجاً حتى ظهرتْ امرأة تلبس فستاناً من الصوفِ الأبيضِ تنظر إليه بعينيها الخاليتين من الأحداق، وتقترب من شبّاكهِ وفاروق يرتعش رهبةً وخوفاً،
تقترب المرأة من نافذته وتحاول الصعود للوصول إليه والشجرة تتعرى وتأفل أوراقها،في تلك اللحظة رجع فاروق خطوتين إلى الوراء و أوصد الشبّاك، ففُتِح الباب وانطبق مصدراً هديراً عالياً، حدّق فاروق بالبابِ ثمَّ التفتَ إلى الوراءِ، رأى المرأة تدنو منه وهو يصرخ بصوت مختنقٌ ويدين متجمدتين، اقتربتْ منه ثم اختفتْ..
هرعَ فاروق إلى والده وهو يصرخ ويلهثُ :
-أبي أبي ..
-ما بكَ يا بني؟!..أراك أصفر الوجهِ والعرق على وجهك اتخذ ملاذا!.
- إني أرى فتاة في حلمي تحاول خنقي، استيقظتُ ومازالت تتبعني .
-لا تخفْ يا بني، إنه حلم وكابوس مزعج ولستَ صغيرا حتى تخاف.
- لا يا أبي، ليس كابوساً إنها حقيقة .
- حسناً!..دعْ النور مضيئاً ونمْ.. تصبح على خير يا فاروق!.
-فاروق من هذا فاروق، أنا اسمي مازن وليس فاروق..
جلس فاروق وبدأ يفكر بالمرأة التي رآها فما قصتها؟..من تكون يا ترى ؟!..قلب الأمر في ذهنه وتذكر إنه رآها في البريد الذي اخترقه ثمَّ استسلم إلى النومِ..
جاء الصباح وأطفأ الرعب مدوّناً نعوة الليل، حاولتْ الأم إيقاظ فاروق وهي تناديه :
-فاروق..قمْ واذهب إلى الجامعة قد تأخرتْ.
وفاروق في فراشه لا يتحرك مستاء من هذا الاسم، "من فاروق أنا اسمي مازن " تمتم مع نفسهِ.
صرختْ الأم وبدأت تركله، فاستيقظ فاروق وصرخ في وجه أمه :
-أمي، اسمي مازن وليس فاروق .
لم تستغرب الأم من جوابه فحسبته قد اتخذ اسم أحد مطربي البوب أو المشاهير.
لبس لباسه بسرعة وانطلق إلى الجامعة دون أن يفطر، صاح به زملاؤه، وفاروق لا يرد عليهم، جلس في المحاضرة يستمع إلى الدكتورة وهي تشرح الدرس، فبانتْ المرأة التي رآها في الحلم تقبع وراء الدكتورة بيدها سكين وربطة شعرها تسقط على الأرض، ليتدلى شعرها على كتفيها حتى يغطي وجهها وتقترب منه وهي تصعد الدرج نحوه، اقتربت منه كثيرا حتى دوت صرخة فاروق وتوقفت المحاضرة بالمدرج.
صرخت الدكتورة باسم فاروق وفاروق في دنيا أخرى :
-فاروق ...فاروق تعال إلى هنا .
-فاروق من فاروق!.. اسمي مازن يا دكتورة .
ضحك الطلاب وبدؤوا يسخرون منه، غضبت الدكتورة وطردته من المحاضرة، خرج مسرعاً وقرر العودة إلى المنزل، خاف من الطريق وبدا حذرا من كل شيء.
عند وصوله إلى البيت جلس أمام الحاسوب وفتّش مرة أخرى في البريد الإلكتروني الذي اقتحمه ووجد صورة المرأة، كانت صورتها عارية تماما، حدّق في وجهها رآها تتحرك أمامه وتقترب من شاشة الحاسب حتى غطى وجهها الحاسوب رويداً رويداً ونقطة من الدماء تكبر مع وجهها حتى ملأتْ الشاشة، أما عيناها الكبيرتان تسيل منهما الدماء، سحب فاروق مأخذ الكهرباء وخرج من الغرفة، كاد أن يبلل سرواله، هرع إلى المرحاض، وهو يتبول، شعر بيد تربت على كتفه، نظر وراءه فتبول على ثيابه .
ساءتْ خلق فاروق لدرجة لا تحتمل، أمسى عصبي المزاج، يغضب لأهون الأسباب، يتعارك مع المارة، كما اشترى مدية، استغرب من منظره حينما وقف أمام المرآة، فقد أمسى قصير القامة وعريض المنكبين وشعره أصبح أسودا ونبتَ على وجهه شاربين كثيفين كما أن الندبة على وجهه قد زالت.
ثم ذلك الدراسة وأهله محتارون في أمره، لم يتركوا طبيباً نفسياً إلا وأخذوه إليه، ولم يكشف أحد حالته النفسية، كما أخذته أمه إلى بعض السحرة ظنّاً منهم على أنه مسحورٌ، فسلب منها السحرة أموالاً طائلة مقابل طلاسم غير مفهومة، تُكتب على الورق لا تكلف إلا حبراً على ورق .
أما والده بدأ بقراءة كتب السحر وتحضير الجان وما من فائدة، فالمرأة لا تترك فاروق، وتظهر له في أحلامه وواقعه.
ازدادت عقد فاروق فغدا يصرخ في وجه من يناديه باسم فاروق ويفرح لمن يناديه بمازن، بحثوا في المنزل عن هوية فاروق وملفات تثبت شخصيته ولم يجدوا، فقد اختفى كل دليل يثبت اسمه .
حين يتوقف الأمل عن الظهور، وعند انتصاف الليل يخلد الناس إلى النوم ، أما فاروق ففرّ من المنزل وبدأ بالسير في الشارع، مرّ بالقرب من بيتٍ قديمٍ وبحث عن المفتاح ووجده تحت ظل شجرة في باحة المنزل، دخل ذاك البيت ورائحة نتنة كرائحة قطة ميتة تفوح منه ، جلس فيه وهو يعرف كل مكمن كل غرض ، اتخذ منه ملاذاً، وبدأ يستحم بالماء اللافح أمام مرآة قديمة في الحمام، البخار يغطي وجه المرآة وفاروق يمسح البخار بيديه فتتضح صورة المرأة العارية في المرآة بعينيها الكبيرتين وتقترب منه، ليخرج فاروق عارياً من الحمام، ومن سوء حظه انقطعت الكهرباء وصوت خطوات أقدام تتعالى، وضوء خافت يرنو، دقق فيه فشاهد المرأة عارية تماما لا يستر جسمها أي شيء، تقف وراءه تارة وأمامه حيناً ثم تسقط على الأرض جثة هامدة وخلفها يقبع شاب بيده سكين تنزف منه الدماء .
دقق في الفتاة هي نفسها تلك الموجودة صورتها في البريد الإلكتروني، أغمي على فاروق ثم استيقظ والعرق يسيل على جبينه كما يسيل البول على بلاط المرحاض الأبيض، اتجه إلى غرفة أخرى فيها حاسوب وفتح البريد الإلكتروني وحدّق في صور الناس الموجودين فيه فسمع صوتاً ضعيفاً أنثوياً يناديه من النافذة : مازن سأقتلك يا مازن! .
نظر إلى النافذة فوجد الستائر تتراقص، نظر خلفه فوجد الفتاة تتعرى تدريجياً وتحمل سكيناً والدماء تسيل من عينيها بغزارة ، وهي تصرخ : يا قاتلي ..يا قاتلي!.
انقض فاروق سريعاً على مقبض الباب، فاصطدم بشخص سأله وهو يرجف :
-من أنت؟..
-أنا أنت.
فرّ منه فاروق والأصوات تلاحقه : مازن أيها القاتل .
وصل فاروق إلى سطح المنزل وما من كهرباء، وهو مستغرب كيف يعمل الحاسوب ؟!، وقف تحت حبل الغسيل، نظر فوقه فرأى فساتين نساء تتدلى على الحبل و نساء يدخلنّ في الفساتين ويخرجنّ، ثمَّ رأى فتاة صغيرة تنشر لباسها الأبيض على حبل الغسيل وهي تتابع حركة فاروق وفزعه من فمها الكبير جدا وصوت بكائها الذي يثقب السمع، اختفت الفتاة وبقي ثوبها يهتز على حبل الغسيل ثم ظهرت بقعة صغيرة على الثوب وبدأت تكبر حتى صار لون الثوب أحمراً قانياً، وضحكات النساء تتعالى على السطح تكاد تفقده سمعه، كما أن بخاراً كثيفاً أصبح يغطي المكان .
دخل إلى الغرفة ووضع شريطا في المسجلة ربما يخفف فزعه، الشريط يدور بهدوء دون أي صوت حتى ملّ فاروق، وقبل أن يشرع على إطفائه سمع صوتا خافتا من الشريط (سأقتلك يا قاتلي )، الصوت يعلو تدريجيا ومزيج من ضحكات وسخريات النساء والعويل والبكاء، وصراخ فتاة صغيرة تبكي بكاء نزقاً يكاد يثقب السمع ، أخرج الشريط بسرعة فلمستْ يداه يدا باردة صغيرة، نظر إليها وإذ هي تلك الفتاة الصغيرة التي رآها على السطح، فرّ مسرعاً.
ثم جرب إشعال التلفاز كل شيء يعمل إلا الأنوار، شاهد النشرة الجوية، ومن غيمة بيضاء في التلفاز خرج وجه المرأة حتى أخذ مكان المذيعة ثم اقتربت من الشاشة ولباسها الصوفي يسحب منه الخيط رويداً رويداً حتى أمست عارية تماما والدماء تقطر من عضوها التناسلي.
أطفأ التلفاز ودخل الغرفة التي يكمن فيها الحاسوب، دخل إلى البريد الإلكتروني وشاهد الصور، فظهر له صورة الفتاة الصغيرة وهي تمسك بيد شخص لا تظهر ملامحه، وتتلاشى الصورة تدريجياً.
خرج فاروق في تلك الليلة إلى الشارع يفكر بالصور والأخيلة التي تتحرك أمامه وترهبه تلك المناظر، مضى دون وجهة محددة، واصطدم بأحد المارة ثم تعارك معه، فأخرج فاروق سكيناً وطعنه، لم يستطع الهروب، قبضتْ عليه الشرطة وطلبوا منه بطاقته الشخصية لم يجدوها معه، فسألوه عن اسمه فأجاب:
-اسمي مازن .
بحثت الشرطة في منزله عن شيء يثبت شخصيته فلم يجدوا وحين حضور أهله تبرى منهم، حاولت الشرطة معرفة اسم فاروق الحقيقي مراراً وجربوا شتى الوسائل لمعرفة اسمه وجوابه لا يتغير : اسمي مازن، زجّوه في السجن بتهمة طعن شخص ومازال يقبع هناك بانتظار محاكمته الفاصلة .
2-7-2010 أنقرة تركيا
حينما يهطل الثلج ,وعندما تلبس السماء فستانها الأبيض خالعة ثوبها الأزرق لتنشر البرد في أرجاء الشارع الذي يخلو من المارة، والذين فضلوا الجلوس في المنزل قرب المدفأة .
يتراءى من منظور الشارع الطويل شخص يدفع عربة مثقلة بالنفايات، ويتحرك ببط، صوت لهاثه السريع ينتشر، وسيجارته المنزاحة على طرف شفته تطرح دخانا كثيرا على وجهه، فتدمع عيناه ليتوقف ويستريح قليلا، فبسام شاب في الخامسة والعشرين من العمر، لم يرث من أبيه شيئا إلا قصر قامته ونظارات غليظة تحجب عيونه، في صعوبة الحياة وزحمة العيش نال الإبتدائية وتوظف في البلدية كعامل للتنظيفات يلّم ما يخلفه الناس من أوساخ حولهم ويحمل في قلبه أعباء كثيرة، فبسام أراد الخير للجميع إلا أن الحياة خذلته، فالأولاد يرشقونه بالحجارة وينعتونه بكلمات هابطة، أما الكبار فيتحاشون النظر إليه ويخشون ملامسته .
لم يكن لبسام أصدقاء إلا قطة مسكينة مشردة كان يطعمها ويستمتع بالحديث معها وعندما اشتدّ هطول الثلج وقف بسام عند القطة محدثا إياها :
اسمعيني أيتها القطة ..اليوم أنا احمل في جعبتي حديثا شيقا وحكما كما يقول المثقفون، فترد القطة بالمواء، ويكمل بسام :
هناك شيئان في هذه الحياة تسّيرانك إما أن تقرصك نحلة، فتنتج عسلا يرتوي منه الناس، أو أن تعضك بعوضة فتنتج خرابا في الدروب، ولكن السؤال الذي يحيرني أنا من الذي قرصني أو عضني حتى أحمل أعباء الناس ونفاياتهم على كتفي! وبالمقابل ألقى النكران، فلماذا يعاملونني بتكبر وغرور ألا يعلمون أن دولاب الدنيا يدور؟!.
فكم تصلبني دروبي الشاحبة يا صديقتي، لأعدّ بها عدد الحاويات التي تقارب عدد الساعات ثم أغفو تدريجيا في بارقة الحزن، فأنا منذ زمن غارق في هذه الشوارع الغبية وتأتي الأيام وترحل الساعات وتمضي الدقائق ويبقى التشرد بين الحاويات صديقا لي.
آه منك أيتها القطة لو تستطيعين الكلام لقلتِ أنك اليوم تتكلم كما يتكلم الكبار، ولكن يا قطتي الصغير هل لابد له من أن يكبر، أما الكبير فهل سيكبر أكثر أم سيموت!، استأذنك الآن بالانصراف يا سيدتي القطة، الثلج قد توقف وعلي الذهاب إلى عملي ..
انصرف بسام إلى عمله في شارع الأثرياء ليدقّ على الأبواب ويضعوا أكياس القمامة بين راحتيه ثم ينقلها إلى عربته التي تبدو له كسيارة مرسيدس.
في أحد الأيام وأثناء لمّه للقمامة دق على أحد بيوت الأثرياء، لتفتح له الباب فتاة ترد عليه بابتسامة أنثوية جميلة وترحب به وكأنه شخص مهم، أما بسام فقلبه أمسى كمطر تموز جنونيا مرطبا للأجواء، أسرع بسام باستلام كيس النفاية فبدا له الكيس باقة من الزهور ، ونزل الدرج مسرعا وكله نشاط وهمة غير طبيعية ليجلس في عربته وهو يحضن كيس القمامة ويشمّه، متأملا وجهها راسما أحلاما وكأنه يركب سيارة فخمة وهي جالسة جنبه.
لم يستطع بسام إخفاء هذا السر عن صديقته القطة فتوجه إليها مسرعا، مصطحبا معه هدية لها، فجلس بجانبها والقطة مستغرقة في الطعام، فسألها بسام:
أتعلمين يا قطتي، أنا سمكة ولكن لاتفكري بأكلي، فأنا أصبحت كسمكة وهذه الفتاة غلاصمي التي أتنفس بها اليوم، فلقد علقتني بالحياة وبدت لي الحياة كأسا من الشوكولاتة، فهل أنا في الصبابة يا عزيزتي؟ لترد القطة بالمواء..
ويستطرد بسام : آه، إنها تبدو لي كهلال شوال الذي يظهر مصطحبا معه العيد في قلبي فلقد طال صيامي في الدنيا يا صديقتي , أنا أبحر في عينيها ولكني لا أملك مجاذيفا فإن سبحت أو غرقت فسأصل إلى الضفة في النهاية، فهل أنا في الصبابة يا عزيزتي؟ ..
كم هي هادئة!، منظر وجهها يوحي لي بالهدوء فتبدو لي كنهر هادئ ,ولكنهم يقولون أن النهر الساكن عميق جدا أصحيح ذلك ؟ ..على كل النهر العميق أفضل من النهر الأهوج المجنون الذي يدمر كل ما يصادفه ..
لكن هل يعرف الناس الساكنون في حارة الأغنياء طقوس الحزن أم أنا وحدي أعرفها، وكيف سأجعلها تحبني، فهل يمتزج النار والماء؟، وأين هي وأنا أين، أتذكر معلمي في الصف الثالث كان يقول لي من الصعب السيطرة على فتاة أو جواد، فأنا لم أسيطر على حمار فكيف أسيطر على فتاة، ولكن يقال أن القدر يتحكم في كل خطواتنا والله يبارك طيبي القلب بغض النظر عن أوضاعهم وأشكالهم، فهل أنا في الصبابة يا رفيقتي ؟
كان يقولها وهو شبه نائم، استسلم للنوم ورأى مناما غريبا حلم بأنه ملك، والفتاة جارية عنده وعندما اقترب منها استيقظ على صوت القطة التي كان يهاجمها كلب ضال .
عاد بسام إلى عمله وكالعادة كان يذهب لبيتها يوميا ليستمتع بوجهها المبتسم، فيبدو وجهها كقهوة الصباح، فهي فاتنة عمره وأول ابتسامة في حياته .
في إحدى المرات وهو منهمك في أكوام الحاوية قرب بيتها، لمحها وصادفها في الطريق مع مجموعة من أصدقائها وهم يتنزهون والابتسامة لا تفارق وجهها، وعندما رآها بسام اقترب منها لعله يحصل على ابتسامة يعتبرها بمثابة مسكن ألم لمريض يعاني، بيد أنها تجاهلته ولأول مرة يعبس وجهها وتتحاشاه مبتعدة عنه، فصعق بسام لهذا المنظر ولنظرتها المزدرية له، ابتعد وغادر الشارع نهائيا مرددا بغناء خجول مع نفسه :
يا عاشقا للخير. . سل الرياح أين اختفى الطير ..الجو غائم والضباب كثيف..فأين المسير..كم طال علينا الطريق ..وأضنانا هجر الصديق ..رحلتنا شاقة بلا رفيق ..كنجمة منطفئة البريق..
ثم بدأ يتحدث مع نفسه :آه يا قلبي ,كانت غلاصمي التي أتنفس منها ولكن الغلاصم هذه المرة أحكمت الإغلاق على نفسها فهل أغرق في شارعي وليس لي إلا غلاصمي .
تابع بسام عمله واضعا أكياس القمامة في الحاويات، كم بدت الأكياس ثقيلة في نظره وعندما كان يضع إحدى الأكياس لاحظ صوتا غريبا منها، ليفتح الكيس وعيناه لا تصدق فالكيس مليء بالنقود التي لم ير منظرها قط، لتعزف السعادة في قلبه سيمفونيتها ويبتسم ملء الفم كطائر مغرد من الفرح وبقمة سعادته وذروة فرحه تجاوز الشارع، ليصدف سيارة مسرعة توقف فرحته وتضرب عربته لتتناثر أكياس القمامة في الشارع ... كل الشارع زبالة ...زبالة ...زبالة.
دمشق صيف 2005
أفٍ.. لقد تأخر عدنان ، نحن بانتظاره منذ ساعتين ولم يحضر بعد، تأففتِ العائلة بعد مللها من الترقب، حتى جاء عدنان الشاب الفوضوي ذو البشرة الداكنة والأنف الأفطس والعيون الصغيرة الذابلة من حصاد السنين.
-آسف يا أبي!، لقد اضطررت إلى التأخر، لم يسمح صاحب المطعم بالخروج لي إلا بعد مغادرة الزبائن وتنظيفي للمطعم. قالها عدنان بخجل!.
-لا بأس يا بني!، ولكن تعلم تقديس الوعود، حسنا لننطلق إلى الحافلة.
توجّهتْ عائلة عدنان إلى القرية بعد قرار الأب بتقضية عطلة نهاية الأسبوع في القرية، فهي فرصة لاستنشاق الهواء النقي البعيد عن ثاني أكسيد المدينة.
وصلت العائلة إلى القرية وبدأت بتنظيف المنزل المليء بالغبار، وبعد ساعات انتهوا من عملهم، حضّرت الأم إبريقا من الشاي الساخن مع الكعك، وعدنان يفكر بالمغارة التي تقع في المنزل والتي لمحها عند ترتيبه للأثاث، وتعجّب لكونها موصدةً بقفل قديم، بينما كانت العائلة غارقة بالمسامرة والحديث حتى جاء سؤال عدنان البارد لأبيه:
-لمَ المغارة مقفلة يا أبي؟!، وأين مفتاحها؟!.
-ماذا تريد من المغارة يا عدنان؟.
-أريد أن أرى مقتنياتها وما يوجد فيها، ربما تحمل بعض الأثاث القديم.
-لا تجرّب الدخول إليها، قد تجد فيها الأفاعي والعقارب، وقد يأكلك الضباب يا بني.
- عندما أضع قدمي على الأرض لا أسأل إن كانت موحلة أم لا.
-لا تتحدث عن المغارة مطلقاً، لقد عكرّت مزاجي أيها الأبله، ابحثْ في مستقبلك ما بك تهتم بالماضي، ما مضى قد انقضى.
تأففت الأم وتنهدت، ثم تمتمت مع نفسها و ربتت على كتف زوجها لتهدئ سكينته.
لم يسمع عدنان كلام والده، وعندما خلد الجميع إلى النوم، توجه إلى المغارة، حاول فتحها لم يستطع، وبعد عدة محاولات فتح بابها بطريقة تعلمها من صديقه في الابتدائية الذي كان يستخدمها لسرقة مسجلات السيارات .
دخل عدنان المغارة والظلام الدامس يغزو المكان، فأشعل نبراساً وتقدم إلى الأمام، وغدا يسمع أصوات في المغارة ، ليلتفت يمنة ويسرى إلى أن لمح فتاة لها شعر أسود طويل، تناديه ثم تختفي، سرى الرعب في جسده حتى بدا يهاب من ظلّه الذي يشكله الفانوس، رأى عدنان صورا لجده وجدته، وعصا جده وقبعته وعلبة تبغه أيضا.
وعند وصوله إلى نهاية المغارة سمع صوت الباب فالتفت و لمح شخصا طبق الأصل منه وكأنه شبيهه وقبل أن يصرخ، قرّب منه المصباح ليتضح له أنها مرآة قديمة جدا و كبيرة الحجم، حملها عدنان و أخذها معه والأصوات تتكاثر في المغارة وصور أناس ترتسم على الحائط عدا عن الغرق في الأصوات، أغلق عدنان أذنيه وركض خارج المغارة.
في اليوم التالي رجعت العائلة إلى منزلها في المدينة، وعدنان فرح بالمرآة التي علقها في خزانته يحدق بها مراراً، فكّر بأمرها واحتار في تاريخ ميلادها ومدى قدمها، وبينما كان غاطسا في التفكير بها رأى صورة أحدهم في المرآة، شخص عجوز بيده عصا كبيرة في مغارة منزلهم القروي يضرب بها رأس فتاة حسناء، يضربها حتى يقتلها ثم يلفها بكيس ويدفنها في المغارة.
فرّ عدنان هاربا من الغرفة والخوف يأكله وصرخ عاليا :
-أبي ..أبي.
-ما الأمر؟.
-لقد أحضرت مرآة من مغارة القرية، وإني لأرى فيها أشياء غريبة.
-لماذا أحضرتها أيها الشقي ؟ وما الذي تراه؟ لا تنظر في المرآة كثيرا، يُحكى في قريتنا من قديم الزمان أن شاباً نظر إلى نفسه في المرآة مطولاً فبدأ بالضحك بادئ الأمر، ثم بكى كثيرا إلى أن فقد عقله، بعدها سقط طريح الفراش حتى فارق الحياة، يا بني نحن نهرب من أنفسنا فما بالك تستمتع بالمرآة ..
-إني أجد شخصا هرما مرعب الشكل يقتل فتاة في ربيع العمر بالعصا حتى الموت .
-ما الذي تقوله أيها الغبي؟!، هل جننت ..أتهذي! وهل أصابك مس ؟!..يبدو أن ولدنا قد جن فقد عقله.. يا للعار!.. لكن دواؤك عندي سأكسر رأسك والمرآة.
- لا يا أبي أرجوك لا تفعل، دعني أقبّل قدميك.
عاد عدنان إلى غرفته ووقف أمام مرآته مرة أخرى فلم يجد إلا صورته وبعد هنيهة شاهد شيئا وراءه، وصورته تتلاشى شيئا فشيء، شاهد رجلا شابا وراءه يضع وسادة على رأس رجل عجوز ويعذبه حتى تتوقف قدما العجوز عن الحراك.
ارتجفت قدما عدنان من هول ما رأى وأمسى حائرا في أمر المرآة وما يفعل بها، احتفظ بالسر في فؤاده وتوجه إلى عمله وأخذ يسأل أصدقاءه عن الأشباح والعالم الآخر وهل يؤمنون بالأطياف، فأجابه معظمهم، إنها خرافات ولا وجود لهم، هدأ جوابهم هواجس عدنان.
عند وصوله إلى المنزل وقف أمام المرآة مباشرة ، ولم يجد شيئا إلا صورته، إلى أن رويدا رويدا ظهرت صورة الفتاة التي قتلها العجوز، كانت فتاة سمراء شعرها طويل يصل إلى ركبتيها، وعيناها كبيرتان تشبه عيون البقر ، لها هدبان نجلاوان، شاهدها في المغارة مع شخص وسخ الملابس يبدو من محياه أنه راعٍ للقطيع يتبادلان القبل، و العجوز يراقبهما من ثقب الباب، وفجأة بدأت المرآة تضخ الدماء شيئا فشيء، بدأت نقطة ثم تحولت إلى نهر.
ابتعد عدنان عن المشهد مسرعا، وركض وأغلق الخزانة، ثم نام والكوابيس تلاحقه، مرة يرى الفتاة تناشده ليساعدها بالخروج من المغارة ومرة يرى العجوز يضحك عاليا على حشد من الجماهير ذي العيون الناعسة.
استيقظ عدنان في الصباح وجسده منهك تماما وقرر رمي المرآة، قبيل رميها نظر إليها ملياً فشاهد فيها شخصا في المغارة ، يجهز حبلا ثم يشنق نفسه، خاف وخارت قواه واقتحم خلوة أبيه صارخاً:
-إني يا أبي أرى امرأة مقتولة وشابا منتحرا وعجوزا قاتلا ومقتولا.
فكر الأب طويلا ثم قال له:
-جهزْ نفسك يا بني قبل أن يستيقظ إخوتك، سنذهب أنا وأنت إلى القرية ونعيد المرآة إلى مكانها لتتخلص من هذه الأوهام، إلى الأبد سترتاح بعدها، سترتاح.
توجه الاثنان إلى القرية وفي طريقهما صادف عدنان صور الأطياف في المرآة تلبس ظلال الأشجار وتتلاشى صور الجبال لتلبسها الظلال، وعند وصولهما إلى المغارة بانت صورة في المرآة رآها عدنان وبدت على عينيه نظرات الخيبة والتحسر، وقبل أن يتكلم عدنان طعنه الأب عدة طعنات حتى رماه قتيلا ثم قام بدفن عدنان في المغارة بجانب الشابة أو فوقها أو تحتها لم يكن يدرِ، بيد أن الظلال بدأت تلاحق والد عدنان ومشهد الدماء لا يفارق ناظريه، فأقفل المغارة وفرّ سريعا.
ثم أخذ المرآة المنحوسة ولم يدفنها تحت التراب خشية نموها، تسلق جبلا كبيرا ورماها في نهر جارٍ، ثم عاد إلى المنزل.
كان النهر في صبيحة ذاك اليوم أهوجا مجنونا يطوف على ضفتيه، فسقطت المرآة على الشاطئ والتقطها صياد سمكٍ، وأخذها معه إلى غرفته التي يجهزها لعرسه القريب القادم ..
حلب 11-12-2008